العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

الثقافي

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

السبت ٢٩ يونيو ٢٠٢٤ - 02:00

لم‭ ‬أحسب،‭ ‬وأنا‭ ‬أقلب‭ ‬الصفحات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬ليلى‭ ‬المطوّع‭ ‬‮«‬المنسيون‭ ‬بين‭ ‬ماءيْن‮»‬،‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬رشم‭ ‬للنشر‭ ‬والتوزيع‭ (‬2024‭)‬،‭ ‬أنني‭ ‬سأقضي‭ ‬أياماً‭ ‬حافلة‭ ‬بالدهشة‭ ‬والمتعة‭ ‬والذهول،‭ ‬وأنا‭ ‬مأسور‭ ‬بهذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬بصفحاته‭ ‬الـ430،‭ ‬وهو‭ ‬الأسر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يشتهي‭ ‬المرء‭ ‬التحرّر‭ ‬منه‭.. ‬تماماً‭ ‬كالحب،‭ ‬كالصداقة،‭ ‬كالكتابة‭.‬

لم‭ ‬أحسب‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬ليلى‭ ‬المطوّع‭ ‬كاتبة‭ ‬بحرينية‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬كتّاب‭ ‬الرواية‭ ‬الذين‭ ‬ما‭ ‬زالوا‭ ‬يتحسسون‭ ‬طريق‭ ‬الإبداع‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬موضع‭ ‬التميّز‭ ‬والفرادة‭. ‬لقد‭ ‬سبق‭ ‬للكاتبة‭ ‬أن‭ ‬أصدرت‭ ‬روايتها‭ ‬الأولى‭ ‬والوحيدة‭ ‬‮«‬قلبي‭ ‬ليس‭ ‬للبيع‮»‬‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2012‭ ‬ثم‭ ‬توقفت‭ ‬سنوات‭ ‬عن‭ ‬الكتابة‭.‬

وإزاء‭ ‬الكتابات‭ ‬الشابة،‭ ‬يتوقع‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬عملاً‭ ‬عادياً‭ ‬أو‭ ‬جيداً،‭ ‬لكن‭ ‬أحياناً‭ ‬يأتي‭ ‬عمل‭ ‬شاب‭ ‬ويخرّب‭ ‬بقوة‭ ‬وفعالية‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬التوقّع‭ ‬الأرعن‭. ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬لي‭ ‬وأنا‭ ‬أحسب‭ ‬أنني‭ ‬سأقرأ‭ ‬عملاً‭ ‬عادياً‭ ‬لأفاجأ‭ ‬بوقوعي‭ ‬في‭ ‬شرَك‭ (‬وهو‭ ‬شرك‭ ‬جميل‭ ‬وفاتن‭) ‬نص‭ ‬قوي،‭ ‬ناضج،‭ ‬مدهش،‭ ‬سوف‭ ‬يأسرني‭ ‬أياماً‭ ‬وأنا‭ ‬انتقل‭ ‬من‭ ‬صفحة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬من‭ ‬حدث‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬من‭ ‬صورة‭ ‬بديعة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬عنها‭ ‬فتنةً‭. ‬

2‭ - ‬كيف‭ ‬نجحت‭ ‬ليلى‭ ‬المطوّع‭ ‬في‭ ‬فعل‭ ‬ذلك،‭ ‬بأن‭ ‬تجعل‭ ‬ساعات‭ ‬القراءة‭ ‬متخمةً‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬آسر‭ ‬ومذهل،‭ ‬في‭ ‬انتزاعي‭ ‬من‭ ‬بلادة‭ ‬اليقين‭ ‬وقذفي‭ ‬في‭ ‬لجّ‭ ‬السؤال‭ ‬والغموض‭.‬

الكاتبة‭ ‬هنا‭ ‬تتقن‭ ‬ببراعة‭ ‬عملية‭ ‬التلاعب‭ ‬بالقارئ،‭ ‬ليس‭ ‬بالمفهوم‭ ‬السلبي،‭ ‬ولكن‭ ‬بالمعنى‭ ‬الدقيق‭ ‬للإثارة‭ ‬والتشويق‭. ‬هي‭ ‬لا‭ ‬تسرد‭ ‬الحدث‭ ‬كحكاية‭ ‬تقليدية‭ ‬ذات‭ ‬بداية‭ ‬ووسط‭ ‬ونهاية،‭ ‬بل‭ ‬تلجأ‭ ‬إلى‭ ‬تقطيع‭ ‬الحدث‭ ‬وبعثرته،‭ ‬عبر‭ ‬مونتاج‭ ‬بارع،‭ ‬لكي‭ ‬يتولى‭ ‬القارئ‭ ‬بنفسه‭ ‬تركيب‭ ‬أجزاء‭ ‬الحكاية‭ ‬وتوصيلها،‭ ‬واستنباط‭ ‬المغزى‭ ‬والمعنى‭. ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تعتمد‭ ‬البناء‭ ‬السردي‭ ‬التقليدي،‭ ‬وإنما‭ ‬تلجأ‭ ‬إلى‭ ‬التشظي‭ ‬والانتقالات‭ ‬المفاجئة،‭ ‬معتمدةً‭ -‬كمراجع‭ ‬ومصادر‭- ‬على‭ ‬كمٍّ‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬الوثائق‭ ‬والكتب‭ ‬التاريخية‭ ‬والأساطير‭ ‬القديمة‭ ‬والحكايات‭ ‬والمعتقدات‭ ‬الشعبية‭ ‬والمقابلات‭ ‬المعاصرة‭ ‬والدراسات‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬البيئة‭ ‬والإنسان‭ ‬والميثولوجيا‭.‬

3‭ ‬بين‭ ‬الوثائقي‭ ‬والسردي،‭ ‬الواقعي‭ ‬والتاريخي‭ ‬أو‭ ‬الأسطوري،‭ ‬اليومي‭ ‬والسحري،‭ ‬العادي‭ ‬والشعائري،‭ ‬العقلاني‭ ‬والغيبي،‭ ‬التقريري‭ ‬والغرائبي،‭ ‬المباشر‭ ‬والمتخيّل،‭ ‬تنقلنا‭ ‬الكاتبة،‭ ‬بمهارة‭ ‬وبراعة،‭ ‬من‭ ‬موضع‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬فتأخذنا‭ ‬إلى‭ ‬البعيد‭ ‬القديم‭ ‬ثم‭ ‬تعيدنا‭ ‬إلى‭ ‬الحاضر‭ ‬القريب،‭ ‬لتأخذنا‭ ‬ثانيةً‭.. ‬هكذا‭ ‬ذهاباً‭ ‬وإياباً،‭ ‬وتدعنا‭ ‬نتأرجح‭ ‬بين‭ ‬الأزمنة،‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر،‭ ‬مأخوذين‭ ‬باللغة‭ ‬الجميلة‭ ‬والسلسة،‭ ‬بالصور‭ ‬النابضة‭ ‬الحيّة،‭ ‬بالسرد‭ ‬الشيّق،‭ ‬بالوصف‭ ‬الباهر،‭ ‬بالانتقالات‭ ‬الرشيقة،‭ ‬بالمخيّلة‭ ‬الخصبة،‭ ‬بالحساسية‭ ‬الشعرية‭ ‬العالية‭.‬

بفعل‭ ‬ذلك،‭ ‬الكاتبة‭ ‬لا‭ ‬تدع‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬الاسترخاء‭ ‬والاطمئنان،‭ ‬والثقة‭ ‬بقدراته‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬التقييم‭ ‬والتحليل‭ ‬والحكم،‭ ‬بل‭ ‬تربك‭ ‬مسلّماته‭ ‬وترجّ‭ ‬ما‭ ‬استقر‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬فهم‭ ‬وإدراك،‭ ‬ليجد‭ ‬نفسه‭ ‬مرغماً‭ ‬على‭ ‬استجواب‭ ‬أفكاره‭ ‬ومفاهيمه‭ ‬وتصوراته‭ ‬بشأن‭ ‬رؤيته‭ ‬للتاريخ‭ ‬والماضي،‭ ‬ولعلاقة‭ ‬الإنسان‭ ‬ببيئته‭ ‬ومحيطه‭ ‬وعالمه،‭ ‬ولدور‭ ‬المعتقدات‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬وعيه‭.‬

والكاتبة‭ ‬لا‭ ‬تكتفي‭ ‬بهذا‭ ‬وإنما‭ ‬تمعن‭ ‬في‭ ‬إثارة‭ ‬القارئ‭ ‬وتحفيزه،‭ ‬واقتحام‭ ‬المواضع‭ ‬المستقرة‭ ‬في‭ ‬وعيه‭ ‬وإدراكه‭ ‬بما‭ ‬يستفزّه‭ ‬ويحثّه‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬والمساءلة‭ ‬والجدل،‭ ‬إذ‭ ‬كلما‭ ‬ظن‭ ‬أنه‭ ‬اكتفى‭ ‬ورأى‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬ليستوعب،‭ ‬فاجأته‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬إثارةً‭ ‬وغموضاً‭.‬

4‭ - ‬وأنت‭ ‬تقرأ،‭ ‬من‭ ‬الأفضل‭ ‬أن‭ ‬تؤجل‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أجوبة‭ ‬لأسئلتك‭ ‬الوفيرة،‭ ‬وأن‭ ‬تكبح‭ ‬رغبتك‭ ‬المعتادة‭ ‬في‭ ‬فك‭ ‬شفرات‭ ‬النص‭ ‬والحفر‭ ‬في‭ ‬الرموز‭ ‬والمجازات،‭ ‬حتى‭ ‬تنتهي‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬الكتاب‭ ‬كله‭. ‬بين‭ ‬الصفحة‭ ‬والأخرى‭ ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تتوقف‭ ‬قليلاً‭ ‬وتتأمل‭ ‬فيما‭ ‬قرأت،‭ ‬ثم‭ ‬تواصل‭. ‬لكن‭ ‬تجنّب‭ ‬إطلاق‭ ‬الأحكام‭ ‬السريعة،‭ ‬التي‭ ‬تعتقد‭ ‬أنها‭ ‬ذكية‭ ‬وحاسمة،‭ ‬بشأن‭ ‬ما‭ ‬تقرأه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬صفحة‭. ‬ثق‭ ‬بالكاتبة،‭ ‬ستكون‭ ‬دليلك‭ ‬الأمين‭. ‬سرْ‭ ‬معها‭ ‬على‭ ‬مهل‭ ‬وبرويّة‭. ‬من‭ ‬دونها‭ ‬تضيع‭. ‬ستأخذك‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬طويلة‭ ‬إلى‭ ‬أقاليم‭ ‬لم‭ ‬ترها‭ ‬ولم‭ ‬تختبرها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وسوف‭ ‬تتمنى‭ ‬ألا‭ ‬تنتهي‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭.‬

ستأخذك‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬عوالم‭ ‬بعيدة‭ ‬وأخرى‭ ‬قريبة‭ ‬عبْر‭ ‬ذاكرة‭ ‬المكان،‭ ‬ذاكرة‭ ‬الماء،‭ ‬ذاكرة‭ ‬النوارس،‭ ‬ذاكرة‭ ‬بشر‭ ‬يتأرجحون‭ ‬بين‭ ‬حاضر‭ ‬يتآكل‭ ‬وماضٍ‭ ‬يزداد‭ ‬غموضاً‭.‬

سوف‭ ‬ترتاد‭ ‬مناطق‭ ‬يحرص‭ ‬سكانها‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬البحر‭ ‬والريح‭ ‬والنجوم‭ ‬والنخيل،‭ ‬وسوف‭ ‬يطلبون‭ ‬منك‭ ‬أن‭ ‬تتبع‭ ‬الماء‭ ‬والشمس‭ ‬والطيور‭ ‬والأسماك‭.. ‬حتى‭ ‬تصل‭ ‬ولا‭ ‬تضيع،‭ ‬حتى‭ ‬يكتشف‭ ‬الأشخاص‭ ‬ذواتهم،‭ ‬هوياتهم‭.‬

5‭ - ‬طوال‭ ‬الرحلة‭ ‬سيكون‭ ‬البحر‭ ‬حاضراً‭ ‬بكل‭ ‬تناقضاته‭ ‬وصوره‭ ‬المتباينة‭ ‬المتنوعة‭. ‬بكل‭ ‬وداعته‭ ‬وجبروته،‭ ‬طيبته‭ ‬ووحشيته،‭ ‬كرمه‭ ‬وجشعه،‭ ‬حنانه‭ ‬وغدره‭.‬

وللماء،‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬حضوره‭ ‬المتعدّد‭ ‬والكلّي‭.. ‬وله‭ ‬قدسيته‭ ‬‮«‬لا‭ ‬تطأ‭ ‬الماء‭ ‬إلا‭ ‬بنيّة‭ ‬صافية‮»‬‭. ‬مياه‭ ‬عذبة‭ ‬ومياه‭ ‬مالحة‭.. ‬يلتقيان‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬يختلطان‭.‬

وأنت‭ ‬تقرأ،‭ ‬تحس‭ ‬بالماء‭ ‬يحيط‭ ‬بك،‭ ‬يتحسسك،‭ ‬يغمر‭ ‬حواسك،‭ ‬يدخل‭ ‬فيك،‭ ‬من‭ ‬فمك‭ ‬وأنفك‭ ‬وأذنيك،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يغرقك‭ ‬مثلما‭ ‬يفعل‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬يقطن‭ ‬النص‭. ‬الماء‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭. ‬تسمع،‭ ‬وأنت‭ ‬تقرأ،‭ ‬خريره،‭ ‬انسيابه،‭ ‬ارتطامه‭ ‬الوديع‭ ‬بك‭.‬

لكن‭ ‬الماء‭ ‬يعاقب‭ ‬أيضاً‭. ‬إنه‭ ‬يجلد‭ ‬من‭ ‬يرتكب‭ ‬إثماً‭ ‬أو‭ ‬خطيئة‭. ‬يخطف،‭ ‬يخنق‭.‬

البحر‭ ‬لا‭ ‬أمان‭ ‬له‭. ‬يلبس‭ ‬جلد‭ ‬الأرض‭ ‬ليخدع‭ ‬البشر‭ ‬ويبتلعهم،‭ ‬ثم‭ ‬يخلع‭ ‬الجلد‭.‬

أحياناً‭ ‬يتداخل‭ ‬الكائن‭ ‬والبحر،‭ ‬يتمازجان،‭ ‬يتحدان‭. ‬وأحياناً‭ ‬يتحوّل‭ ‬الكائن‭ ‬إلى‭ ‬شبيه،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭. ‬وقد‭ ‬يصبح‭ ‬مسخاً‭. ‬

طوال‭ ‬الرواية‭ ‬نشهد‭ ‬الصراع‭ ‬العنيف‭ ‬بين‭ ‬عناصر‭ ‬تعايشت‭ ‬لآلاف‭ ‬السنين‭ ‬حتى‭ ‬وقع‭ ‬الشر‭ ‬وحدث‭ ‬الشقاق‭ ‬نتيجة‭ ‬جشع‭ ‬وجهل‭ ‬وقسوة‭ ‬قوى‭ ‬خارجية،‭ ‬دخيلة‭. ‬صراع‭ ‬بين‭ ‬بحر‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬وجوده‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تمت‭ ‬محاصرته‭ ‬وتطويقه،‭ ‬ثم‭ ‬خنقه‭ ‬بالرمال‭ ‬عبْر‭ ‬الردم‭ ‬والدفن،‭ ‬حيث‭ ‬تسبّب‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬جفاف‭ ‬العيون‭ ‬والينابيع،‭ ‬وموت‭ ‬الشجر،‭ ‬وهجرة‭ ‬الطيور‭.‬

وأرض،‭ ‬يابسة،‭ ‬تريد‭ ‬التوسّع‭ ‬أكثر،‭ ‬لإقامة‭ ‬المشاريع‭ ‬العمرانية‭ ‬والطرق‭ ‬العامة،‭ ‬فتقرض‭ ‬البحر‭ ‬جزءًا‭ ‬جزءًا‭ ‬حتى‭ ‬تدفنه‭.‬

6‭ - ‬العنف‭ ‬ملمح‭ ‬بارز‭ ‬في‭ ‬الرواية‭.‬

يمارسه‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬دفاعه‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬وأهله‭ ‬وموطنه،‭ ‬وفي‭ ‬محاولته‭ ‬للامتلاك‭ ‬ملبياً‭ ‬غريزة‭ ‬الجشع‭ ‬والشهوة‭ ‬والجوع‭ ‬والحاجة‭ ‬والسلطة‭. ‬وتمارسه‭ ‬الطبيعة‭ ‬عندما‭ ‬تغضب‭ ‬وتهيج‭ ‬ويتلاعب‭ ‬بها‭ ‬الناس‭. ‬وتمارسه‭ ‬الآلهة‭.‬

الرواية‭ ‬حافلة‭ ‬بالقرابين،‭ ‬الأضاحي،‭ ‬البشرية‭ ‬والحيوانية‭ ‬والنباتية‭.. ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬قربان‭ ‬عنف‭.. ‬بصورة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭.‬

7-‭ ‬ثمة‭ ‬شخوص‭ ‬تظهر‭ ‬وتختفي،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تترك‭ ‬أثراً‭ ‬غائراً‭ ‬في‭ ‬متن‭ ‬النص،‭ ‬وفي‭ ‬وعي‭ ‬القارئ‭ ‬وذاكرته‭. ‬إذ‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬غيابها‭ ‬تظل‭ ‬حاضرة‭. ‬ولكل‭ ‬شخصية‭ ‬سماتها‭ ‬المتميزة،‭ ‬أبعادها‭ ‬الخاصة،‭ ‬همومها،‭ ‬طموحها،‭ ‬أسرارها‭:‬

ناديا‭ ‬هي‭ ‬الشخصية‭ ‬المحورية،‭ ‬المعاصرة،‭ ‬التي‭ ‬تمسك‭ ‬بكل‭ ‬الخيوط،‭ ‬بالشخوص‭ ‬والأحداث‭. ‬إنها‭ ‬تشهد‭ ‬حوادث‭ ‬عديدة‭ ‬مبهمة‭ ‬ولا‭ ‬تفسير‭ ‬لها‭. ‬وهي‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬غموض‭ ‬الظواهر‭ ‬الغريبة‭ ‬التي‭ ‬تحدث‭ ‬من‭ ‬حولها‭. ‬تبحث‭ ‬في‭ ‬أوراق‭ ‬جدها،‭ ‬وجدتها‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬متيّمة‭ ‬بالنخيل‭ ‬والينابيع،‭ ‬ودافعت‭ ‬بشراسه‭ ‬عن‭ ‬حق‭ ‬البحر‭ ‬في‭ ‬الوجود‭. ‬ناديا‭ ‬ممسوسة‭ ‬بفكرة‭ ‬من‭ ‬سيكتب‭ ‬سيرة‭ ‬الماء‭. ‬يوماً‭ ‬ما‭ ‬تنفجر‭ ‬فجأة‭ ‬العيون‭ ‬والينابيع‭ ‬في‭ ‬الجزيرة،‭ ‬ويختفي‭ ‬الأطفال،‭ ‬ومن‭ ‬بينهم‭ ‬ابنتها‭.‬

سليمة‭ ‬الحبلى،‭ ‬الثكلى‭ ‬بعد‭ ‬تقديم‭ ‬ابنتها‭ ‬الصغيرة،‭ ‬الوحيدة،‭ ‬قرباناً‭ ‬لنبع‭ ‬ماء‭ ‬آخذ‭ ‬في‭ ‬الزوال،‭ ‬وبعد‭ ‬مقتل‭ ‬زوجها‭ ‬بوحشية‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الوالي‭. ‬إنها‭ ‬تلاحق‭ ‬شخصاً‭ ‬معيّناً‭ ‬من‭ ‬أشراف‭ ‬أهل‭ ‬الجزيرة‭ ‬وأشجعهم‭ ‬وأشعرهم،‭ ‬هو‭ ‬طرفة‭ ‬بن‭ ‬العبد‭. ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬جنينها‭ ‬النور‭ ‬ولا‭ ‬يموت‭ ‬مثل‭ ‬بقية‭ ‬أولادها،‭ ‬يتوجب‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تنتظر‭ ‬مقتل‭ ‬طرفه،‭ ‬فتقفز‭ ‬على‭ ‬جسده‭ ‬المحتضر‭ ‬يميناً‭ ‬ويساراً‭ ‬حتى‭ ‬تتبارك‭ ‬بآخر‭ ‬أنفاسه‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬بالفعل،‭ ‬لكن‭ ‬الوالي‭ ‬يأمر‭ ‬بقتلها‭ ‬فتهرب،‭ ‬ولكي‭ ‬تنجو‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تتبع‭ ‬الماء‭.‬

أيا‭ ‬ناصر،‭ ‬البذرة‭ ‬الطالعة‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬ما‭ ‬يعتبره‭ ‬المعبد‭ ‬خطيئة،‭ ‬فيحكمون‭ ‬على‭ ‬أبيه‭ ‬بالموت‭ ‬غرقاً،‭ ‬وتنتحر‭ ‬أمه‭ ‬حزناً‭. ‬رضع‭ ‬أيا‭ ‬من‭ ‬ثدي‭ ‬امرأة‭ ‬مسكونة‭ ‬بالأرواح‭ ‬وتعيش‭ ‬مثل‭ ‬البهيمة‭. ‬يكبر‭ ‬ويبرع‭ ‬في‭ ‬نقش‭ ‬الأختام‭. ‬يرسله‭ ‬المعبد‭ ‬مع‭ ‬آخرين‭ ‬في‭ ‬بعثة‭ ‬للدراسة‭. ‬أثناء‭ ‬الرحلة‭ ‬يقتل‭ ‬تلميذاً،‭ ‬وصديقه‭ ‬يتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬وحش‭ ‬بحري‭. ‬عندما‭ ‬يختارون‭ ‬حبيبته‭ ‬لتكون‭ ‬قرباناً،‭ ‬يحاول‭ ‬انقاذها‭ ‬فيعصي‭ ‬بذلك‭ ‬تعاليم‭ ‬المعبد‭.‬

في‭ ‬حكاية‭ ‬أخرى،‭ ‬نجد‭ ‬مراهقاً‭ ‬يعشق‭ ‬امرأة‭ ‬ليكتشف‭ ‬أنها‭ ‬مجرد‭ ‬نبع‭ ‬يتجسد‭ ‬في‭ ‬هيئة‭ ‬امرأة‭ ‬جميلة‭ ‬تختطف‭ ‬الرجال‭ ‬والأطفال‭. ‬هي‭ ‬تبادله‭ ‬العشق‭ ‬وتريد‭ ‬امتلاكه‭. ‬عندما‭ ‬توشك‭ ‬على‭ ‬ابتلاعه،‭ ‬يتخلص‭ ‬منها‭. ‬يتزوج‭ ‬ابنة‭ ‬عمه‭. ‬هي‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬اختطاف‭ ‬ابنه‭. ‬ينتقم‭ ‬منها‭ ‬بدفن‭ ‬العين،‭ ‬بخنقها‭. ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬أسرها‭ ‬وتأخذه‭ ‬معها‭ ‬إلى‭ ‬باطن‭ ‬الأرض،‭ ‬في‭ ‬عناق‭ ‬طويل‭ ‬وأبدي‭.‬

يعقوب،‭ ‬الطويل‭ ‬والقوي،‭ ‬يكرّس‭ ‬نفسه‭ ‬للآلهة‭. ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬الدير‭ ‬خادماً‭ ‬للرب‭. ‬طموحه‭ ‬أن‭ ‬يتقدّس‭ ‬ويسير‭ ‬على‭ ‬الماء‭. ‬يعشق‭ ‬امرأة‭ ‬وهبت‭ ‬نفسها‭ ‬للدير،‭ ‬فقد‭ ‬جاءت‭ ‬إلى‭ ‬هنا‭ ‬لتكفّر‭ ‬عن‭ ‬ذنبها،‭ ‬إذ‭ ‬أغرقت‭ ‬أبناءها‭ ‬الصغار‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬نذراً‭ ‬له‭. ‬هي‭ ‬تبادل‭ ‬يعقوب‭ ‬العشق‭. ‬تحبل‭ ‬منه‭. ‬وعندما‭ ‬يحين‭ ‬المخاض‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬القابلة‭ ‬في‭ ‬الرحم‭ ‬غير‭ ‬الماء‭. ‬فيما‭ ‬يعومان‭ ‬ليلاً،‭ ‬يغافله‭ ‬البحر‭ ‬ويغرقها‭. ‬يغضب‭ ‬يعقوب‭ ‬ويمارس‭ ‬شعائر‭ ‬طرد‭ ‬البحر‭. ‬عقاباً‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬فعلته،‭ ‬يدفنونه‭ ‬في‭ ‬الرمل‭ ‬لكي‭ ‬يغرقه‭ ‬البحر‭.‬

درويش،‭ ‬البارع‭ ‬في‭ ‬نقش‭ ‬أبيات‭ ‬الشعر‭ ‬والآيات‭ ‬على‭ ‬الحجر‭ ‬والأجساد‭ ‬والجدران‭ ‬وشواهد‭ ‬القبور‭. ‬لا‭ ‬يشعر‭ ‬بالانتماء‭ ‬إلى‭ ‬المكان‭ ‬والناس‭. ‬يسمونه‭ ‬عاشق‭ ‬أو‭ ‬عابد‭ ‬الحجر‭. ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬يذهب‭ ‬صاغراً‭ ‬إلى‭ ‬البحر‭ ‬ليبتلعه‭.‬

ومع‭ ‬مهنا‭ ‬ننتقل‭ ‬إلى‭ ‬فترة‭ ‬الغوص‭. ‬هو‭ ‬ابن‭ ‬غواص‭. ‬ينتزعه‭ ‬النوخذة‭ ‬وهو‭ ‬صغير‭ ‬من‭ ‬أمه‭ ‬ليسدّد‭ ‬ديون‭ ‬أبيه،‭ ‬الذي‭ ‬تسبب‭ ‬النوخذة‭ ‬في‭ ‬موته‭. ‬يكبر‭ ‬مهنا‭ ‬ويصير‭ ‬غواصاً‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفصل،‭ ‬تكشف‭ ‬الكاتبة‭ ‬عن‭ ‬معرفة‭ ‬غزيرة‭ ‬وعميقة‭ ‬بعالم‭ ‬البحر،‭ ‬في‭ ‬مستوييه‭ ‬السطحي‭ ‬والعميق‭. ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬نلمس‭ ‬هذه‭ ‬المعرفة‭ ‬العميقة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬فصول‭ ‬الكتاب‭.‬

نلاحظ‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬الشخوص‭ ‬تتأرجح‭ ‬بين‭ ‬البراءة‭ ‬والخطيئة،‭ ‬الخوف‭ ‬والجسارة،‭ ‬العفة‭ ‬والشبق،‭ ‬الوداعة‭ ‬والعنف،‭ ‬المقدّس‭ ‬والمدنّس،‭ ‬الولادة‭ ‬والموت‭.‬

8‭ ‬تنتهي‭ ‬الرواية‭ ‬برؤيا‭ ‬غريبة،‭ ‬مخيفة،‭ ‬إذ‭ ‬يتحوّل‭ ‬سكان‭ ‬الجزر‭ ‬إلى‭ ‬بحر‭.. ‬بالأحرى،‭ ‬إلى‭ ‬موجة‭ ‬واحدة‭ ‬عالية‭ ‬تلتهم‭ ‬كل‭ ‬شيء‭.‬

9‭ - ‬بهذا‭ ‬النص‭ ‬الفاتن،‭ ‬تخلق‭ ‬ليلى‭ ‬المطوّع‭ ‬أسطورتها‭ ‬الخاصة،‭ ‬معلنةً‭ ‬بثقة‭ ‬أنها‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬كتّاب‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا