المصطلحان «المثقف العضوي» و«الكتلة التاريخية» اخترعهما زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي، أنطونيو غرامشي، في مؤلفه «دفاتر السجن» الذي كتبه خلال فترة وجوده في السجن. فبالنسبة إلى غرامشي (ينبثق عن كل طبقة اجتماعية أو جماعة، مثقف عضوي يعمل على نشر قيم وأفكار طبقته قدر الإمكان وصياغتها ضمن أيديولوجية واضحة، أي توحيدها في منظومة موحّدة، ذلك لأن هدفه الرئيسي هو هيمنة طبقته على المجتمع وفرض مصالحها والدفاع عن حقوقها، ذلك أن دور المثقف العضوي هو بناء قواعد ثابته وخاصة بالطبقة التي ينتمي إليها، من خلال العمل على صقل فكر أفرادها وتصوراتهم وتمثلاتهم تجاه الأشياء، ليقوم فيما بعد بالدخول في موجة صراع مع الطبقات الأخرى لفرض الهيمنة). وبالطبع مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع الطبقي، تترافق معها تحولات فكرية لهذا المثقف العضوي. وقد ينتقل نتيجة لذلك إلى مثقف تقليدي يخدم مصالح طبقته الجديدة.
لقد جَسَّدَ المفكر محمد جابر الأنصاري –رحمه الله– في بدايات حياته الفكرية والأدبية ذلك المثقف «المشتبك» مع قضايا مجتمعه، وما دوره الحيوي في تأسيس الحركة الأدبية البحرينية، والعمل على استقلالية أسرة الأدباء والكتاب، ودفاعه عن حرية المبدع. وما «معركته» الفكرية الشهيرة في حقل التربية والتعليم، سوى نموذجين لهذا الدور العضوي للمثقف.
أما هاجسه الفكري المرافق، فقد كان حفره العميق في التراث العربي الإسلامي، للبحث عن المشتركات، والممكنات في تحقيق (الكتلة التاريخية) لأهم التيارات الفلسفية والفكرية في وطننا العربي. وكان في ذلك يلتقي ويبتعد، يتفق ويختلف، مع مفكرين عضويين عرب، سبقوه في هذا البحث عن كتلة تاريخية عربية، أو كتلة تاريخية عربية-إسلامية. ولعل في مجلده الضخم (الفكر العربي وصراع الأضداد) نموذج لهذا الحفر التاريخي الفكري. محاولاً – وباعتراف منه – «التوفيق» بين الدين والعلم. أو ما يسميه (مشروع إعادة التصالح بين الوحي والعقل). وكيف يمكن حل الإشكالية بين علمانية الغرب وإيمانية المشرق. أو بين عقلانية عربية وعرفانية فارسية. أو بين قوميات يسارية وناصرية وبعثية تتماوج بين العلمانية والمادية والمثالية والتراثية.
في خضم هذا الحفر الواسع في معظم مناحي العقل العربي الإسلامي، كان مشرط «النقد الصارم» لهذا العقل حاضراً في تحليله. لينتهي في مشروعه «الفلسفي للفكر العربي» بدعوته للإنسان العربي المعاصر كسر طوق «التوفيقية» بين الوحي والعقل، كقوتين ضاغطتين، والخروج من ورطة التوفيق بينهما، و(التحرر من حالة الاستلاب، وذلك بالعودة إلى براءة الذات الحرة، وفطرتها، بمنأى عن أغلال الموروث والمقتبس معاً، بدلاً من أن تكون شخصيته محكومة بثنائية قيمية لمصدرين غريبين عنه بحكم تغير الزمان والمكان).
وبحسب قصيدة الشاعر التركي ناظم حكمت الأثيرة عليه (إن أجمل الأيام، تلك التي لم تروها بعد!) يوجه نداءه إلى الإنسان العربي بأن قبول دعوته تلك خير له أن ينتبه إلى ذلك الخواء الذاتي الذي يعيشه، وعليه أن يكشف عنه، ويملأه بإبداع أصيل من أن يظل في الحلقة المفرغة تتجاذبه القوتان النقيضتان – الأصالة والمعاصرة أو النقل والعقل – إلى ما لا نهاية. طارحاً على العربي، هذا السؤال (ماذا يخشى أن يخسره اليوم بعد توالي الانهيارات التي لم ينقذه منها حذقه التوفيقي على مدى قرن ونصف؟). وكأنه تنبأ في كتابه هذا – الصادر قبل أكثر من ربع قرن – بما نحن فيه من انهيارات متلاصقة: انهيار خلف انهيار في وطن عربي ممتد من البحر إلى البحر!.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك