العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

الثقافي

الأنصاري بين المثقف العضوي.. والكتلة التاريخية

بقلم: عبدالله جناحي

السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ - 02:00

المصطلحان‭ ‬‮«‬المثقف‭ ‬العضوي‮»‬‭ ‬و«الكتلة‭ ‬التاريخية‮»‬‭ ‬اخترعهما‭ ‬زعيم‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬الإيطالي،‭ ‬أنطونيو‭ ‬غرامشي،‭ ‬في‭ ‬مؤلفه‭ ‬‮«‬دفاتر‭ ‬السجن‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كتبه‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬وجوده‭ ‬في‭ ‬السجن‭. ‬فبالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬غرامشي‭ (‬ينبثق‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬طبقة‭ ‬اجتماعية‭ ‬أو‭ ‬جماعة،‭ ‬مثقف‭ ‬عضوي‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬نشر‭ ‬قيم‭ ‬وأفكار‭ ‬طبقته‭ ‬قدر‭ ‬الإمكان‭ ‬وصياغتها‭ ‬ضمن‭ ‬أيديولوجية‭ ‬واضحة،‭ ‬أي‭ ‬توحيدها‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬موحّدة،‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬هدفه‭ ‬الرئيسي‭ ‬هو‭ ‬هيمنة‭ ‬طبقته‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬وفرض‭ ‬مصالحها‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوقها،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬دور‭ ‬المثقف‭ ‬العضوي‭ ‬هو‭ ‬بناء‭ ‬قواعد‭ ‬ثابته‭ ‬وخاصة‭ ‬بالطبقة‭ ‬التي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليها،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬صقل‭ ‬فكر‭ ‬أفرادها‭ ‬وتصوراتهم‭ ‬وتمثلاتهم‭ ‬تجاه‭ ‬الأشياء،‭ ‬ليقوم‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬بالدخول‭ ‬في‭ ‬موجة‭ ‬صراع‭ ‬مع‭ ‬الطبقات‭ ‬الأخرى‭ ‬لفرض‭ ‬الهيمنة‭). ‬وبالطبع‭ ‬مع‭ ‬التحولات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الطبقي،‭ ‬تترافق‭ ‬معها‭ ‬تحولات‭ ‬فكرية‭ ‬لهذا‭ ‬المثقف‭ ‬العضوي‭. ‬وقد‭ ‬ينتقل‭ ‬نتيجة‭ ‬لذلك‭ ‬إلى‭ ‬مثقف‭ ‬تقليدي‭ ‬يخدم‭ ‬مصالح‭ ‬طبقته‭ ‬الجديدة‭.‬

لقد‭ ‬جَسَّدَ‭ ‬المفكر‭ ‬محمد‭ ‬جابر‭ ‬الأنصاري‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬حياته‭ ‬الفكرية‭ ‬والأدبية‭ ‬ذلك‭ ‬المثقف‭ ‬‮«‬المشتبك‮»‬‭ ‬مع‭ ‬قضايا‭ ‬مجتمعه،‭ ‬وما‭ ‬دوره‭ ‬الحيوي‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬الحركة‭ ‬الأدبية‭ ‬البحرينية،‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬استقلالية‭ ‬أسرة‭ ‬الأدباء‭ ‬والكتاب،‭ ‬ودفاعه‭ ‬عن‭ ‬حرية‭ ‬المبدع‭. ‬وما‭ ‬‮«‬معركته‮»‬‭ ‬الفكرية‭ ‬الشهيرة‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم،‭ ‬سوى‭ ‬نموذجين‭ ‬لهذا‭ ‬الدور‭ ‬العضوي‭ ‬للمثقف‭.‬

أما‭ ‬هاجسه‭ ‬الفكري‭ ‬المرافق،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬حفره‭ ‬العميق‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬المشتركات،‭ ‬والممكنات‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ (‬الكتلة‭ ‬التاريخية‭) ‬لأهم‭ ‬التيارات‭ ‬الفلسفية‭ ‬والفكرية‭ ‬في‭ ‬وطننا‭ ‬العربي‭. ‬وكان‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬يلتقي‭ ‬ويبتعد،‭ ‬يتفق‭ ‬ويختلف،‭ ‬مع‭ ‬مفكرين‭ ‬عضويين‭ ‬عرب،‭ ‬سبقوه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬كتلة‭ ‬تاريخية‭ ‬عربية،‭ ‬أو‭ ‬كتلة‭ ‬تاريخية‭ ‬عربية‭-‬إسلامية‭. ‬ولعل‭ ‬في‭ ‬مجلده‭ ‬الضخم‭ (‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬وصراع‭ ‬الأضداد‭) ‬نموذج‭ ‬لهذا‭ ‬الحفر‭ ‬التاريخي‭ ‬الفكري‭. ‬محاولاً‭ ‬‭ ‬وباعتراف‭ ‬منه‭ ‬‭ ‬‮«‬التوفيق‮»‬‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والعلم‭. ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ (‬مشروع‭ ‬إعادة‭ ‬التصالح‭ ‬بين‭ ‬الوحي‭ ‬والعقل‭). ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬حل‭ ‬الإشكالية‭ ‬بين‭ ‬علمانية‭ ‬الغرب‭ ‬وإيمانية‭ ‬المشرق‭. ‬أو‭ ‬بين‭ ‬عقلانية‭ ‬عربية‭ ‬وعرفانية‭ ‬فارسية‭. ‬أو‭ ‬بين‭ ‬قوميات‭ ‬يسارية‭ ‬وناصرية‭ ‬وبعثية‭ ‬تتماوج‭ ‬بين‭ ‬العلمانية‭ ‬والمادية‭ ‬والمثالية‭ ‬والتراثية‭.‬

في‭ ‬خضم‭ ‬هذا‭ ‬الحفر‭ ‬الواسع‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬مناحي‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬كان‭ ‬مشرط‭ ‬‮«‬النقد‭ ‬الصارم‮»‬‭ ‬لهذا‭ ‬العقل‭ ‬حاضراً‭ ‬في‭ ‬تحليله‭. ‬لينتهي‭ ‬في‭ ‬مشروعه‭ ‬‮«‬الفلسفي‭ ‬للفكر‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬بدعوته‭ ‬للإنسان‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬كسر‭ ‬طوق‭ ‬‮«‬التوفيقية‮»‬‭ ‬بين‭ ‬الوحي‭ ‬والعقل،‭ ‬كقوتين‭ ‬ضاغطتين،‭ ‬والخروج‭ ‬من‭ ‬ورطة‭ ‬التوفيق‭ ‬بينهما،‭ ‬و‭(‬التحرر‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬الاستلاب،‭ ‬وذلك‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬براءة‭ ‬الذات‭ ‬الحرة،‭ ‬وفطرتها،‭ ‬بمنأى‭ ‬عن‭ ‬أغلال‭ ‬الموروث‭ ‬والمقتبس‭ ‬معاً،‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬شخصيته‭ ‬محكومة‭ ‬بثنائية‭ ‬قيمية‭ ‬لمصدرين‭ ‬غريبين‭ ‬عنه‭ ‬بحكم‭ ‬تغير‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭).‬

وبحسب‭ ‬قصيدة‭ ‬الشاعر‭ ‬التركي‭ ‬ناظم‭ ‬حكمت‭ ‬الأثيرة‭ ‬عليه‭ (‬إن‭ ‬أجمل‭ ‬الأيام،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تروها‭ ‬بعد‭!) ‬يوجه‭ ‬نداءه‭ ‬إلى‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬بأن‭ ‬قبول‭ ‬دعوته‭ ‬تلك‭ ‬خير‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬ينتبه‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الخواء‭ ‬الذاتي‭ ‬الذي‭ ‬يعيشه،‭ ‬وعليه‭ ‬أن‭ ‬يكشف‭ ‬عنه،‭ ‬ويملأه‭ ‬بإبداع‭ ‬أصيل‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬في‭ ‬الحلقة‭ ‬المفرغة‭ ‬تتجاذبه‭ ‬القوتان‭ ‬النقيضتان‭ ‬‭ ‬الأصالة‭ ‬والمعاصرة‭ ‬أو‭ ‬النقل‭ ‬والعقل‭ ‬‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭. ‬طارحاً‭ ‬على‭ ‬العربي،‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ (‬ماذا‭ ‬يخشى‭ ‬أن‭ ‬يخسره‭ ‬اليوم‭ ‬بعد‭ ‬توالي‭ ‬الانهيارات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬ينقذه‭ ‬منها‭ ‬حذقه‭ ‬التوفيقي‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬قرن‭ ‬ونصف؟‭). ‬وكأنه‭ ‬تنبأ‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬هذا‭ ‬‭ ‬الصادر‭ ‬قبل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬‭ ‬بما‭ ‬نحن‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬انهيارات‭ ‬متلاصقة‭: ‬انهيار‭ ‬خلف‭ ‬انهيار‭ ‬في‭ ‬وطن‭ ‬عربي‭ ‬ممتد‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬إلى‭ ‬البحر‭!.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا