برحيل المفكر البحريني الأستاذ الدكتور محمد جابر الأنصاري مستشار جلالة الملك للشؤون الثقافيّة والعلميّة يترجل عن المشهد الثقافي والفكري والنقدي العربيّ ابن خَلدون القرن العشرين أو ابن خَلدون العصر الحديث، كما لقبه بذلك بعض المفكرين العرب المعاصرين الذين وضعوا مشاريعه الحضارية التنويرية في سياقاتها المؤسسيّة الكبرى التي صدرت عنها في تاريخ الفكر العربيّ المعاصر.. إذ يُعد محمد جابر الأنصاري أحد أهم الرموز التأسيسيّة ذات الثقل الفكري الكبير لمشروع نقد الفكر العربيّ، وتجديد المشروع النهضوي ورائد الدراسات الاستشرافية والمستقبلية في العالم العربي.
لقد عاصر محمد جابر الأنصاري حقبًا تاريخيّة مفصلية في التاريخ العالمي والعربي المعاصر ابتداءً من طفولته في الحرب العالمية الثانية إلى منتصف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين في ظرفية تاريخية وسياسية استثنائية عامرة بالتحولات الديناميكية والمفارقات. لقد استقرأ الأنصاري هذه المسارات التاريخية والفكرية الفارقة جميعها واستبطنها واستمزجها وفكّكها وأعاد تركيبها بفكره (التوفيقي)، وليس بقراءات استعادية أو تفسيرية نصية محضة، كما حملته رحلته الأكاديمية الطويلة في الجامعات العالمية العريقة المرموقة إلى الجامعة الأمريكية ببيروت وجامعة كامبردج وجامعة السوربون، وأسهم في تأسيس معهد العالم العربي في باريس في أواخر سبعينيات القرن العشرين. ويتقاطع مشروعه الفكري مع مشروع المفكر المغربي محمد عابد الجابري والمفكر السوري جورج طرابيشي في تلك المساءلات النقدية الفلسفية الاستشرافيّة المستقبليّة لأسئلة النهضة العربيّة باكتشاف الذات ونقدها، ويتزامن معها بالتوازي في تلك التقاطعات المبهرة والكشوف الفكرية واللمع التنويرية، وإن اختلفت المنهجيات بينهم في طبيعة المعالجات الخاصة بمدوّنات النصوص وتفكيكها. لقد عاد الأنصاري إلى التراث العربيّ الإسلاميّ، وعاد إلى تشخيص الواقع العربيّ في أبعاده الحضارية، والسياسيّة، والاقتصادية، والثقافيّة، والاجتماعيّة بحثًا عن الفكر العربيّ وصراع الأضداد بعد أن كتب عن تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية.
لقد كان محمد جابر الأنصاري سابقًا مجايليه في الدراسات المستقبليّة في كتابه (العالم والعرب سنة 2000)، وهو الكتاب الذي أطلق فيه عدة تنبؤات سياسية مستقبلية ببروز قوى جديدة على الساحة العالمية وانهيار قوى أخرى واضمحلالها وتفككها، ورسم خارطة الطريق المستقبلية أمام العرب للتعامل مع هذه المستجدات في الوضع الجيوسياسي في العالم كله. لقد قال غازي القصيبي عن الأنصاري: «أطلق الأنصاري كرة ملتهبة بالأفكار، فهل يتناولها المفكرون العرب أم يخشون على أيديهم من الاحتراق؟». ولا ننسى أنَّ الفقيد الراحل كان من مؤسسي أسرة الأدباء والكتاب وكان أول رئيس لها، كما كانت له كتابات منهجية نقدية تناولت نتاج بعض أدباء البحرين المعاصرين، إلى جانب اهتمامه بتراث البحرين الأدبي في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه (إحياء تراث البحرين الأدبي، جمع وتحقيق). يستحق إرث الأنصاري العلمي الفكري أن يكون مجالاً للدرس الأكاديمي الرصين، وأن تُعقد حوله حلقات نقاشية علمية معمَّقة لطلبة الماجستير والدكتوراه في كليات الآداب والعلوم الإنسانيّة في الجامعات الخليجيّة والعربيّة، وأن يُدشن كرسي يحمل اسمه لضمان استدامة مثل هذه الدراسات المستقبلية. لقد أسَّس محمد جابر الأنصاري بمؤلفاته الثرية مكتبة عربية مرجعية أصيلة في مجالها، وسيبقى إرثه التأسيسي مرجعًا أصيلاً للأجيال العربية الحالية والمستقبليّة. رحم الله الفقيد الراحل وتغمده بواسع رحمته ومغفرته.
{ أستاذة السَّرديات والنقد الأدبي الحديث المشارك،
كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك