عند أوائل ستينيات القرن الماضي كان بعض شباب البحرين يتلمس الطريق لنشر نتاجه الأدبي الجديد المغاير لما كان سائدًا وقتها، وكانت مجلة «هنا البحرين» الشهريّة التي تصدرها دائرة الإعلام في حكومة البحرين أول من تلقّـف التجارب الأولى لمحمد عبد الملك وخلف أحمد خلف وشيئا من أشعاري، وما أن صدرت جريدة «الأضواء» الأسبوعية للراحل محمود المردي منتصف الستينيات حتى انفتح مجال نشر أكثر رحابة.
كان ذلك النتاج الأدبي النشط بحاجة إلى حركة نقدية توازي ذلك النشاط العارم لـتُخرجه من الجلسات المنزلية الأسبوعية التي يتولى الأستاذ أحمد المناعي في أبرز تلك الجلسات دور الناقد والموجه، فإذا بكاتب جديد هو محمد جابر الأنصاري يفاجئنا بسلسلة مقالات نقدية أسبوعية بعنوان «مسامرات جاحظية» لمواصلة النظر في النتاج الأدبي الجديد مستعرضاً الأعمال التي نشرت مُبشرا بحركة أدبية جديدة جاهدا في توجيهها من مقالة إلى أخرى.
وأذكر أنه في ديسمبر من عام 1966 وفي أولى مسامراته الجاحظية تناول قصيدتين من قصائدي وأنا في الحادية والعشرين من العمر وبشر بميلاد شاعر بحريني جديد، وعندما التقيته لأول مرة في مكان عام، وعرّفت نفسي إليه نظر إليّ باسما مستغربا وهو يقول: «حسبتك أكبر سنا». ومن حينها امتدت بيننا مع الأيام صداقة حميمة تجذرت وتعمقت.
وحين اشتد عود تلك الحركة الأدبية الجديدة تم التنادي بتأسيس كيان أدبي كرابطة الأدباء في الكويت واتحاد الأدباء في مصر وغيرهما في البلاد العربية، إلا أن السلطات الاستعمارية البريطانية في البحرين وقتها اعترضت على تأسيس كيان أدبي لمجموعة من المثقفين، وعندما اجتهد الأنصاري في تذليل تلك العقبة بالتفاهم مع السلطات الوطنية البحرينية لم تتم الموافقة على تسمية هذا الكيان الجديد رابطة أو اتحاد، فما كان إلاّ أن أصدر حضرة صاحب العظمة الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة حاكم البحرين الراحل طيب الله ثراه أمراً أميريا بالموافقة على تأسيس هذا الكيان الأدبي الجديد بمسمى «أسرة الأدباء والكتّاب» بضمانة الجهود والتأكيدات التي قدمها الأنصاري لأهمية بروز كيان أدبي جديد يحتضن أفكار الجيل ويمثل البحرين في نهضتها الحديثة، فكان أول رئيس لأسرة الأدباء والكتاب، وهو واضع شعارها الدال على نهج نتاجها وتوجهها «الكلمة من أجل الإنسان».
ظل الأنصاري من قريب ومن بعيد خلال دراسته العليا في بيروت وباريس على اتصال مباشر لاستطلاع كل جديد طارئ في الحركة الأدبية محللاً وناقداً وموجهاً، له فضل كبير في تجنب العديد من المزالق والعثرات والوقوع في مطبات زمن البحرين الصعب ذلك الوقت. فقد نبه إلى عديد مما اعتور الحركة الشعرية المحلية من غلو جانب منها في التأثر بالموجات الفنية والسياسية الرائجة في الثقافة العربية وقتها، ولا يمكنني أن أنسى أبدا وهو يجتاز بي في السبعينيات دهاليز مترو الأنفاق بباريس عندما أبديت انبهاري وإعجابي بجهود الأيدي العاملة التي حفرت تلك الأنفاق بمستويات ارتفاعها وانخفاضها وتعرجات مسالكها تحت سطح الأرض حين استوقفني مذكرا بجهود من خطط وهندس وقاد هؤلاء العمال للإنجاز الذي نراه.
لم يكن الأنصاري مجرد ناقد أدبي حصيف فحسب، فقد كان مفكراً عروبياً أصيلاً ذا نظرة شمولية تنحو لوسطية قومية في معالجة تأزمنا الحضاري، وضع لها العديد من المؤلفات التي ناقش عبرها أعلى ما كان يطرح على ساحة الفكر العربي.
إلى جانب كل ذلك، وقف الدكتور الأنصاري معنا في أدق المواقف وأصعبها، وحين كنت وبعض ذوي الاختصاص نخطط لإصدار هذه المجلة العلمية المحكّمة «الثقافة الشعبية» كان الأنصاري حاضراً بدعمه ومسانداته والتماعاته الفكرية وإضاءاته الموجهة والموسّعة أمامنا في الأفق، فهو من وضع أمامنا عبارة «رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم»، وهي العبارة التي رافقت إصدارات المجلة على مدى ثلاثة عشر عاماً من انتظام الصدور.
إن الأثر الأدبي والفكري الذي تركه الأستاذ الدكتور محمد جابر الأنصاري في حركتنا الأدبية والفكرية بشمولية أفكاره وفاعلية جهوده وصلات علاقاته الواسعة الممتدة سيظل بليغا لن يفي به مقال أو تجميع عدة مقالات عابرة مهما بلغت من الثراء، وحسناً فعلت هيئة البحرين للثقافة والآثار بتنظيم احتفالية وطنية لاستذكار سيرة هذا المفكر واستعراض مآثره، وهو ما سنحتاجه لأمثاله من الأعلام، وهم كثر يحتلون الذاكرة.
حري بنا أن نُعنى بجمع الآثار الفكرية والأدبية المطبوع منها والمخطوط للدكتور الأنصاري وإخضاعها للتحليل والفرز لتكون مادة أصيلة من مواد الدرس في جامعاتنا وأفكارا للحوار والمناقشة في منتدياتنا، وفاء مستحقا لمفكر وأستاذ عربي جليل..
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك