العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

الثقافي

سـرديـات: سرديات الأطلال أو الصُّمُ الخَوالدُ!

بقلم: د. ضياء عبدالله الكعبي

السبت ٠٦ مايو ٢٠٢٣ - 02:00

  ‬شكَّلتْ‭ ‬المقدمةُ‭ ‬الطلليّةُ‭ ‬العتباتِ‭ ‬النصيّةَ‭ ‬الأولى‭ ‬لطقوسِ‭ ‬العبورِ‭ ‬في‭ ‬القصيدةِ‭ ‬الجاهليّةِ‭ ‬وتقاليدها‭ ‬الأدبيّةِ‭ ‬والجماليّةِ‭ ‬في‭ ‬عصرِ‭ ‬مَا‭ ‬قَبل‭ ‬الإسلامِ،‭ ‬واستمرَّ‭ ‬حضورها‭ ‬الكبيرُ‭ ‬في‭ ‬كثيرٍ‭ ‬من‭ ‬قصائدِ‭ ‬العصرين‭ ‬الإسلاميِّ‭ ‬والأمويِّ‭. ‬وعلى‭ ‬الرغمِ‭ ‬من‭ ‬ثورةِ‭ ‬الشاعرِ‭ ‬العبَّاسيِّ‭ ‬أبي‭ ‬نواس‭ ‬وتهكمهِ‭ ‬عَلى‭ ‬الأطلالِ‭ ‬ودعوتهِ‭ ‬إلى‭ ‬استحداثِ‭ ‬أدبياتٍ‭ ‬جديدةٍ‭ ‬تليقُ‭ ‬بمرحلةٍ‭ ‬حضاريةٍ‭ ‬جديدةٍ‭ ‬لاَ‭ ‬علاقةَ‭ ‬لها‭ ‬بثقافةِ‭ ‬الصَّحراء،‭ ‬وتمثلُّ‭ ‬قطيعةً‭ ‬معرفيّةً‭ ‬معها‭ ‬إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬عدداً‭ ‬كبيراً‭ ‬من‭ ‬الشُّعراءِ‭ ‬العبّاسيين‭(‬الفحول‭) ‬حافظوا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬قصائدِهم‭ ‬على‭ ‬المقدماتِ‭ ‬الطلليّة،‭ ‬ومنهم‭ ‬بشّار‭ ‬بن‭ ‬بُرد،‭ ‬والعبَّاس‭ ‬بن‭ ‬الأَحنف،‭ ‬وأبو‭ ‬تمَّام،‭ ‬والبُحْتُريّ،‭ ‬وابن‭ ‬الروميّ،‭ ‬وأبوالطيّب‭ ‬المتنبيّ،‭ ‬وأبوفراس‭ ‬الحَمدانيّ،‭ ‬والشريف‭ ‬الرَضيّ،‭ ‬والشريف‭ ‬المرتضي‭ ‬وغيرهم‭. ‬ولقد‭ ‬برزت‭ ‬المقدمة‭ ‬الطلليّةُ‭ ‬كذلكَ‭ ‬عند‭ ‬شعراءَ‭ ‬متأخرين‭ ‬مثل‭ ‬أسامة‭ ‬بن‭ ‬منقذ،‭ ‬وابن‭ ‬الساعاتيّ،‭ ‬ومحمود‭ ‬سامي‭ ‬الباروديّ‭ ‬وغيرهم‭. ‬وفي‭ ‬العصرِ‭ ‬الحديث‭ ‬كانَ‭ ‬للأطلالِ‭ ‬حضورُها‭ ‬الشعريُّ‭ ‬المؤثِّرُ‭ ‬في‭ ‬قصيدةِ‭ (‬الأطلال‭) ‬للشاعرِ‭ ‬المصريِّ‭ ‬إبراهيم‭ ‬ناجي،‭ ‬وهي‭ ‬القصيدةُ‭ ‬التي‭ ‬أبدعتْ‭ ‬في‭ ‬غنائها‭ ‬كوكب‭ ‬الشرق‭ ‬السيدة‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭. ‬لقد‭ ‬حافظتْ‭ ‬نصوصٌ‭ ‬الأطلالِ‭ ‬العربيَّةِ‭ ‬على‭ ‬بقائها‭ ‬في‭ ‬الشِّعريةِ‭ ‬العربيَّةِ‭ ‬القديمةِ‭ ‬على‭ ‬الرغمِ‭ ‬من‭ ‬التحولاتِ‭ ‬الثقافيّةِ‭ ‬البنيويةِ‭ ‬الكبرى‭ ‬الحاصلةِ‭ ‬في‭ ‬الثقافةِ‭ ‬العربيَّةِ‭ ‬آنذاك،‭ ‬وانتقالها‭ ‬من‭ ‬الثقافةِ‭ ‬الشفهيّةِ‭ ‬إلى‭ ‬تقاليدِ‭ ‬الثقافةِ‭ ‬الحضريةِ‭ ‬المكتوبةِ‭ ‬بكافة‭ ‬طقوسِها‭ ‬ومظاهرها،‭ ‬إلى‭ ‬جانبِ‭ ‬حضورِ‭ ‬المؤثِّرِ‭ ‬العقائديِّ‭ ‬الإسلاميِّ‭ ‬خاصةً‭ ‬في‭ ‬الشعرين‭ ‬الإسلاميِّ‭ ‬والأمويِّ‭.‬

ولَمْ‭ ‬تكنْ‭ ‬المقدماتُ‭ ‬الطَلليّةُ‭ ‬في‭ ‬الشِّعرِ‭ ‬العَربيِّ‭ ‬القديمِ‭ ‬مجردَ‭ ‬نصوصٍ‭ ‬تَكراريةٍ‭ ‬قائمةٍ‭ ‬فقط‭ ‬عَلى‭ ‬الاحتذاءِ‭ ‬المطابقِ‭ ‬لشعرِ‭ ‬الأوائلِ‭ ‬والسابقين‭ ‬في‭ ‬متخيّلهم،‭ ‬وفي‭ ‬بلاغتهم‭ ‬وموسيقاهم‭ ‬الشعرية‭ ‬وكافة‭ ‬طقوسهم‭ ‬الفنيّة‭. ‬إنَّ‭ ‬المقدماتِ‭ ‬الطَلليّةَ‭ ‬في‭ ‬الشِّعرِ‭ ‬العَربيِّ‭ ‬القديمِ‭ ‬هي‭ ‬نصوصٌ‭ ‬استثنائيةٌ‭ ‬تحتفي‭ ‬ببلاغةِ‭ ‬المغايرةِ‭ ‬والاختلافِ؛‭ ‬وبالتالي‭ ‬هي‭ ‬نصوصُ‭ ‬الحَركةِ‭ ‬وليستْ‭ ‬نصوصُ‭ ‬السكونِ‭ ‬والثَباتِ‭. ‬كَما‭ ‬أنَّ‭ ‬هذه‭ ‬المقدماتِ‭ ‬الطَلليّةَ‭ ‬كانتْ‭ ‬عند‭ ‬شاعرِ‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الإسلامِ‭ ‬ذاتَ‭ ‬علاقةٍ‭ ‬وثيقةٍ‭ ‬بكونه‭ ‬الشعريِّ‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬رؤيةُ‭ ‬العَالمِ‭ ‬عنده،‭ ‬ولذلك‭ ‬أرادَ‭ ‬هذا‭ ‬الشاعرُ‭ ‬القديمُ‭ ‬استنطاقَ‭ ‬مفرداتِ‭ ‬الكونِ‭ ‬مِن‭ ‬خلالِ‭ ‬استنطاقِ‭ ‬بنيةِ‭ ‬الأطلالِ‭ ‬أو‭ ‬الصُّمِّ‭ ‬الخوالدِ‭ ‬التي‭ ‬تتكلمُ،‭ ‬وفقَ‭ ‬تعبيرِ‭ ‬الشَّاعرِ‭ ‬الجاهليِّ‭ ‬سلامة‭ ‬بن‭ ‬جندل‭ ‬الذي‭ ‬يقولُ‭:‬

 

وقفتُ‭ ‬بها‭ ‬مَا‭ ‬إِنْ‭ ‬تُبِينُ‭ ‬لِسائلٍ‭     ‬

وَهَل‭ ‬تَفْقَهُ‭ ‬الصُّمُ‭ ‬الخَوالِدُ‭ ‬مَنْطِقِي

 

تطرحُ‭ ‬مدوَّنةُ‭ ‬الأطلالِ‭ ‬الشِّعرية‭ ‬العربيّةِ‭ ‬سؤالاً‭ ‬كبيراً‭ ‬هو‭ ‬مَا‭ ‬سببُ‭ ‬حضورِ‭ ‬الأطلالِ‭ ‬في‭ ‬القصيدةِ‭ ‬العربيَّةِ‭ ‬القديمةِ‭ ‬على‭ ‬اختلافِ‭ ‬عصورها،‭ ‬على‭ ‬الرغمِ‭ ‬من‭ ‬تغايرِ‭ ‬المرجعياتِ‭ ‬الثقافيّةِ‭ ‬والمعرفيّةِ‭ ‬التي‭ ‬كانَ‭ ‬يصدرُ‭ ‬عنها‭ ‬بعضُ‭ ‬الشُّعراءِ‭ ‬العربِ‭ ‬بعد‭ ‬عصرِ‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الإسلامِ،‭ ‬وهم‭ ‬الشعراءُ‭ ‬الذين‭ ‬احتفوا‭ ‬بالطَللِ‭ ‬في‭ ‬بعضِ‭ ‬قصائدهم‭. ‬لقدْ‭ ‬اختلفَ‭ ‬الكونُ‭ ‬الشِّعريُ‭ ‬للشاعرِ‭ ‬العربيِّ‭ ‬في‭ ‬العصرين‭ ‬الإسلاميِّ‭ ‬والأمويِّ،‭ ‬وكذلكَ‭ ‬في‭ ‬العصورِ‭ ‬العربيّةِ‭ ‬اللاحقةِ،‭ ‬واختلفتْ‭ ‬أسئلته‭ ‬الكونيةُ‭ ‬عن‭ ‬شاعرِ‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الإسلامِ،‭ ‬واختلفتْ‭ ‬الذاتُ‭ ‬الثقافيةُ،‭ ‬واختلفتْ‭ ‬مرجعياتها‭ ‬الأيديولوجيةُ‭ ‬العقائديةُ‭ ‬والفكريةُ‭ ‬والفلسفيّةُ‭ ‬والثقافيّةُ‭ ‬من‭ ‬‮«‬قِفَا‭ ‬نَبْكِ‮»‬‭ ‬في‭ ‬معلقةِ‭ ‬أميرِ‭ ‬شعراء‭ ‬العصر‭ ‬الجاهليِّ‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬شاعرٍ‭ ‬رومانطيقيٍّ‭ ‬حالمٍ‭ ‬من‭ ‬جماعةِ‭ ‬أبولو‭ ‬الشعرية‭ ‬هو‭ ‬الشاعرُ‭ ‬المصريُ‭ ‬إبراهيم‭ ‬ناجي‭. ‬ولا‭ ‬نستطيعُ‭ ‬دراسةَ‭ (‬الأطلال‭) ‬في‭ ‬أيِّ‭ ‬قصيدةٍ‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلالِ‭ ‬بيانِ‭ ‬العلاقةِ‭ ‬البنيويةِ‭ ‬الرابطةِ‭ ‬بين‭ ‬العتبةِ‭ ‬النصيّةِ‭ (‬الأطلال‭) ‬بمجملِ‭ ‬بنيةِ‭ ‬القصيدة‭. ‬

إنَّ‭ ‬مدوَّنة‭ ‬الأطلال‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربيّة‭ ‬الكلاسيكيّة‭ ‬هي‭ ‬مدوَّنة‭ ‬تأسيسيّة‭ ‬تحيلنا‭ ‬ثقافيًا‭ ‬إلى‭ ‬نصوصِ‭ ‬ثقافيّةٍ‭ ‬أخرى‭ ‬موازيةٍ‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الثقافةِ‭ ‬العربيّةِ‭ ‬نفسها‭: ‬نصوصٍ‭ ‬تحتفي‭ ‬بالنوستالجيا‭ ‬والذاكرةِ‭ ‬الاسترجاعيّةِ،‭ ‬وتحتفي‭ ‬كذلكَ‭ ‬بالكشوفاتِ‭ ‬الشِّعريةِ‭ ‬الكونيّة‭ ‬ِوبالسَّرديات‭ ‬الاستباقيّة‭ ‬في‭ ‬الأثر‭ ‬والمتخيّل‭. ‬إنَّ‭ ‬نصوص‭(‬الأطلال‭) ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربيّة‭ ‬هي‭ ‬مجازاتٌ‭ ‬ثقافيّةٌ‭ ‬وسردياتٌ‭ ‬كبرى‭ (‬Grand‭ ‬Narratives‭)‬،‭ ‬وهذا‭ ‬الذي‭ ‬حفظَ‭ ‬للأطلالِ‭ ‬على‭ ‬اختلافِ‭ ‬تنويعاتها‭ ‬البقاءَ‭ ‬والديمومةَ‭ ‬منذُ‭ ‬أكثرَ‭ ‬من‭ ‬ألفٍ‭ ‬وخمسمائةِ‭ ‬عامٍ‭! ‬

 

{ أستاذة‭ ‬السرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث‭ ‬المشارك،

كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا