العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

تحولات نظرية الأمن الإسرائيلية

بقلم: د. ناجى صادق شرّاب

الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ - 02:00

قبل‭ ‬الولوج‭ ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬غزة‭ ‬والأمن‭ ‬القومي‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬وأين‭ ‬تقع‭ ‬غزة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الأمن،‭ ‬ابتداءً‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬التأكيد‭ ‬أن‭ ‬الحروب‭ ‬الأربع‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬السابقة‭ ‬على‭ ‬غزة‭ ‬والحرب‭ ‬الخامسة‭ ‬الحالية‭ ‬التي‭ ‬فاقت‭ ‬كل‭ ‬التوقعات‭ ‬والحسابات،‭ ‬تؤكد‭ ‬لنا‭ ‬فرضية‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬هي‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬العلاقة،‭ ‬وأننا‭ ‬قد‭ ‬نرى‭ ‬حربًا‭ ‬سادسة‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬تسوية‭ ‬سياسية‭ ‬شاملة‭. ‬والفرضية‭ ‬الثانية‭ ‬أن‭ ‬التهدئة‭ ‬ليست‭ ‬الخيار،‭ ‬والمقاربة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تمنع‭ ‬الحرب‭.‬

والفرضية‭ ‬الثالثة‭ ‬أن‭ ‬إسرائيل‭ ‬لن‭ ‬تسمح‭ ‬بتجاوز‭ ‬حدود‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬للمقاومة؛‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬القوة‭ ‬تشكل‭ ‬من‭ ‬منظورها‭ ‬تهديدًا‭ ‬مباشرًا‭ ‬لأمنها‭.. ‬وهذا‭ ‬يقودنا‭ ‬إلى‭ ‬الفرضية‭ ‬الرابعة‭ ‬والرئيسية،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬خطورة‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬ليس‭ ‬بحجمها‭ ‬ولا‭ ‬بمداها،‭ ‬لكنها‭ ‬تشكل‭ ‬تهديدًا‭ ‬داخليًا؛‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬غزة‭ ‬وبحكم‭ ‬وقوعها‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الدائرة‭ ‬الأولى‭ ‬للأمن‭ ‬الإسرائيلي؛‭ ‬فهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬سلاح‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬تقليديًا‭ ‬يشكل‭ ‬مصدر‭ ‬قلق‭ ‬وتهديد،‭ ‬وهذه‭ ‬الفرضية‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬أساس‭ ‬العلاقة‭.‬

غزة‭ ‬وكل‭ ‬فلسطين‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الدائرة‭ ‬الأولى‭ ‬لأمن‭ ‬إسرائيل،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬لنا‭ ‬رفض‭ ‬إسرائيل‭ ‬قيام‭ ‬الدولة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬الضمانات‭ ‬بسلميتها‭ ‬وديمقراطيتها‭. ‬ففكرة‭ ‬الدولة‭ ‬نقيض‭ ‬لأمن‭ ‬إسرائيل‭. ‬وهذا‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬منطقة‭ ‬القلب‭ ‬التي‭ ‬تمثلها‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭. ‬أما‭ ‬غزة‭ ‬ورغم‭ ‬صغر‭ ‬مساحتها‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬340‭ ‬كيلو‭ ‬مترًا‭ ‬مربعًا،‭ ‬وفقدانها‭ ‬للخصائص‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬فهي‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬القلب‭ ‬والعمق‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬مما‭ ‬يسهل‭ ‬وصول‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬فيها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يقف‭ ‬وراء‭ ‬حجم‭ ‬التدمير‭ ‬للبنية‭ ‬التحتية‭ ‬فوق‭ ‬الأرض‭ ‬وتحت‭ ‬الأرض‭ ‬وعدد‭ ‬القتلى‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭.‬

وما‭ ‬يميز‭ ‬غزة‭ ‬محددها‭ ‬السكاني،‭ ‬فعدد‭ ‬سكانها‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬المليونين‭ ‬ونصف‭ ‬المليون‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنها‭ ‬أكبر‭ ‬منطقة‭ ‬كثافة‭ ‬سكانية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وهنا‭ ‬تكمن‭ ‬قوتها‭ ‬الحقيقية،‭ ‬وتستمد‭ ‬أهميتها‭ ‬لوجود‭ ‬حركات‭ ‬المقاومة‭ ‬وسيطرتها‭ ‬الكاملة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬منها‭ ‬مصدر‭ ‬تهديد‭ ‬دائم‭ ‬لإسرائيل‭ ‬لتجاور‭ ‬غزة‭ ‬منطقة‭ ‬سكانية‭ ‬في‭ ‬إسرائيل‭ ‬ما‭ ‬تعرف‭ ‬بمنطقة‭ ‬الغلاف،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬سلاح‭ ‬المقاومة‭ ‬ذا‭ ‬فاعلية‭ ‬وتأثير‭ ‬ويعزز‭ ‬من‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المناطق‭ ‬السكانية‭.‬

ونظرية‭ ‬الأمن‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬لا‭ ‬تطبق‭ ‬عليها‭ ‬المفاهيم‭ ‬التقليدية‭ ‬للأمن‭ ‬القومي‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬البقاء‭ ‬وحماية‭ ‬مصالح‭ ‬الدولة‭ ‬ومواجهة‭ ‬التهديدات‭ ‬الخارجية‭. ‬إسرائيل‭ ‬بحكم‭ ‬قيامها‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬عنصر‭ ‬القوة‭ ‬وعلى‭ ‬حساب‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬الذين‭ ‬شردوا،‭ ‬تعتبر‭ ‬التهديد‭ ‬صفة‭ ‬دائمة‭ ‬لوجودها‭ ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬قيام‭ ‬السلام‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬طرف؛‭ ‬ففلسطينيًا،‭ ‬رغم‭ ‬الاعتراف‭ ‬الفلسطيني‭ ‬بإسرائيل‭ ‬كدولة‭ ‬وتوقيع‭ ‬اتفاقات‭ ‬أوسلو‭ ‬لكن‭ ‬بقيت‭ ‬الاعتبارات‭ ‬الأمنية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬العلاقة‭. ‬فالجنرال‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬يسرائيل‭ ‬طالفي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الأمن‭ ‬القومي‭ ‬قلة‭ ‬مقابل‭ ‬كثرة‮»‬‭ ‬يعرفه‭ ‬بضمان‭ ‬وجود‭ ‬الأمة‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬مصالحها‭. ‬أما‭ ‬الجنرال‭ ‬يهو‭ ‬شافاط‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬حرب‭ ‬واستراتيجية‮»‬،‭ ‬فإنه‭ ‬يتبنى‭ ‬مفهومًا‭ ‬أكثر‭ ‬شمولية‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬الدولة‭ ‬واستقلالها‭ ‬وكمالها‭ ‬الإقليمي‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬مواطنيها،‭ ‬وعن‭ ‬طبيعة‭ ‬نظام‭ ‬الحكم‭ ‬فيها،‭ ‬وعن‭ ‬أمنها‭ ‬الداخلي،‭ ‬والأمن‭ ‬اليومي‭ ‬على‭ ‬حدودها‭ ‬وعن‭ ‬أيديولوجيتها‭ ‬وعن‭ ‬ميزانها‭ ‬الديموغرافي،‭ ‬وعن‭ ‬مكانتها‭ ‬في‭ ‬العالم‮»‬‭. ‬وأما‭ ‬شيمون‭ ‬بيريز‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬الأسبق‭ ‬فيقول‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الشرق‭ ‬الأوسط‮»‬‭: ‬‮«‬إن‭ ‬موضوع‭ ‬الأمن‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬اعتباره‭ ‬قابلًا‭ ‬للنقاش‭ ‬أمام‭ ‬رئيس‭ ‬أي‭ ‬حكومة‭ ‬إسرائيلية،‭ ‬إنه‭ ‬موضوع‭ ‬حياة‭ ‬أو‭ ‬موت‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا‭ ‬جميعًا‮»‬‭.‬

وتستند‭ ‬إسرائيل‭ ‬إلى‭ ‬مبادئ‭ ‬ثابتة‭ ‬لأمنها،‭ ‬أبرزها‭ ‬التفوق‭ ‬العسكري‭ ‬في‭ ‬الإقليم،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬لأي‭ ‬دولة‭ ‬أن‭ ‬تتفوق‭ ‬عليها‭ ‬عسكريًا‭ ‬ولذلك‭ ‬تملك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مئة‭ ‬رأس‭ ‬نووي،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فهي‭ ‬تعتبر‭ ‬محاولة‭ ‬إيران‭ ‬امتلاك‭ ‬هذا‭ ‬السلاح‭ ‬بمثابة‭ ‬تهديد‭ ‬مباشر‭ ‬لها‭. ‬والعنصر‭ ‬الثاني،‭ ‬أنّ‭ ‬هناك‭ ‬تهديدًا‭ ‬دائمًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الفواعل‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬ذات‭ ‬الدول‭ ‬وخصوصًا‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬وفصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭.‬

وعليه‭ ‬فالأمن‭ ‬لدى‭ ‬إسرائيل‭ ‬ليس‭ ‬مسألة‭ ‬وجودها‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬مسألة‭ ‬حياة‭ ‬أو‭ ‬موت،‭ ‬وهذا‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬حروبها‭ ‬مع‭ ‬غزة‭. ‬فالمسألة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لها‭ ‬أنها‭ ‬تعتبر‭ ‬أن‭ ‬قتل‭ ‬مستوطن‭ ‬إسرائيلي‭ ‬بمثابة‭ ‬تهديد‭ ‬ومساس‭ ‬مباشر‭ ‬بأمنها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يدفع‭ ‬نحو‭ ‬توجيه‭ ‬ضربات‭ ‬عسكرية‭ ‬كثيفة‭ ‬إلى‭ ‬غزة‭. ‬وينطبق‭ ‬هذا‭ ‬القول‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬الأسرى‭ ‬من‭ ‬جنودها‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬جنديًا‭ ‬واحدًا‭. ‬

والجديد‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬غزة‭ ‬بنظرية‭ ‬الأمن‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬الحالية‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬نتيجة‭ ‬عملية‭ ‬الطوفان‭ ‬كشفت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬نقاط‭ ‬الضعف‭ ‬في‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬التي‭ ‬تعتمد‭ ‬عليها‭ ‬إسرائيل‭ ‬منذ‭ ‬إنشائها،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬لم‭ ‬تتعوده‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬حروبها،‭ ‬وقدرة‭ ‬المقاومة‭ ‬على‭ ‬انتزاع‭ ‬ورقة‭ ‬من‭ ‬يوقف‭ ‬الحرب‭ ‬أولًا‭ ‬ومتى‭ ‬وكيف،‭ ‬وسقوط‭ ‬فرضية‭ ‬الردع‭ ‬والضربة‭ ‬الاستباقية‭. ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬تراجع‭ ‬مكانة‭ ‬إسرائيل‭ ‬دوليًا‭ ‬وبداية‭ ‬اتخاذ‭ ‬مواقف‭ ‬سلبية‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬ما‭ ‬ترتكبه‭ ‬من‭ ‬جرائم‭ ‬حرب‭ ‬وحروب‭ ‬إبادة‭.‬

وعليه‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬ستؤدى‭ ‬إلى‭ ‬مراجعة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬فرضيات‭ ‬الأمن‭ ‬القومي‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬وستبقى‭ ‬غزة‭ ‬تشكل‭ ‬إحدى‭ ‬أهم‭ ‬معضلات‭ ‬الأمن‭ ‬إسرائيليًا‭. ‬ويبقى‭ ‬البديل‭ ‬بقيام‭ ‬الدولة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬التي‭ ‬تحل‭ ‬مشكلة‭ ‬الأمن‭ ‬والاستقرار‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭.‬

{‭ ‬أكاديمي‭ ‬فلسطيني‭ ‬مختص‭ ‬

في‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا