أخيرا وبعد طول انتظار، يبدو أن التوصل إلى صيغة جديدة من الوحدة حول فلسطين في طريقه ليصل إلى حركة التضامن مع فلسطين في جميع أنحاء العالم. وبطبيعة الحال فإن سبب التوصل إلى هذه الوحدة واضح ألا وهو غزة.
لقد أسهمت أول إبادة جماعية يتم بثها على الهواء مباشرة في العالم في قطاع غزة، والتعاطف العفوي المتزايد، وبالتالي التضامن، مع الضحايا الفلسطينيين، في إعادة ترتيب الأولويات من الصراعات السياسية والأيديولوجية النموذجية إلى حيث كان ينبغي أن تظل دائمًا: محنة الشعب الفلسطيني قبل كل شيء وفوق كل شيء.
وبعبارة أخرى، فإن الأعمال الإجرامية الصارخة التي ارتكبتها إسرائيل، وصمود الفلسطينيين وتمسكهم بكرامتهم، والحب الحقيقي لفلسطين من جانب الناس العاديين، هو الذي فرض نفسه على بقية العالم.
وفي حين أن عديدا من مجموعات التضامن، على الرغم من اختلافاتها، وجدت دائما هوامش للوحدة حول فلسطين، فإن العديد منها لم تفعل ذلك.
وبدلاً من حشد الدعم لإرساء خطاب فلسطيني قائم على أساس العدالة، ويركز بشكل أساسي على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وتفكيك الفصل العنصري، والحصول على الحقوق الفلسطينية الكاملة، احتشدت مجموعات عديدة حول أولوياتها الأيديولوجية والسياسية، والشخصية في كثير من الأحيان.
لقد أدى التركيز على هذه الأولويات الأيديولوجية والسياسية، والشخصية إلى إحداث انقسامات عميقة، وفي نهاية المطاف، إلى الشرخ المؤسف في صلب ما كان من المفترض أن يشكل حركة عالمية واحدة وموحدة.
ورغم أن كثيرين يزعمون بحق أن تلك الحركة العالمية قد عانت من العواقب الوخيمة للحرب السورية وغيرها من الصراعات المرتبطة بما يسمى بالربيع العربي، فإن الحركة كانت تاريخيا عرضة للانقسامات، قبل فترة طويلة من الاضطرابات الأخيرة التي تعاقبت في منطقة الشرق الأوسط وتفاقمت تداعياتها.
لا يزال من الممكن رؤية بلقنة الحركة الاشتراكية على مستوى العالم، ولكن بشكل رئيسي في الدول الغربية، وخاصة فيما يتعلق بوجهة نظر عديد من المجموعات الاشتراكية فيما يتعلق بالأحداث الجارية في فلسطين، وحلولها المحظورة للاحتلال الإسرائيلي.
الفلسطينيون على الأرض. فما يتم بلورته من صيغ سحرية في مختبرات أكاديمية غربية هي في نهاية المطاف غير ذات صلة على الإطلاق بالأحداث الجارية في جنين أو خان يونس أو جباليا.
وبالإضافة إلى ذلك، هناك مشكلة تتعلق بالتضامن العابر للحدود الوطنية. وهذا النوع من التضامن مشروط ببساطة بالعودة المتوقعة لقدر متساوٍ من التضامن في شكل المعاملة السياسية بالمثل.
وتُعد هذه الفكرة تطبيقًا مضللًا لمفهوم التقاطعية، كما هو الحال في عديد من المجموعات الساخطة التي تعرض التضامن المتبادل لتضخيم صوتها الجماعي وتعزيز مصالحها.
ورغم أن التقاطعية على المستوى العالمي لا تكاد تكون عملية، ناهيك عن اختبارها ــفالعلاقات بين الدول تحكمها عادة استراتيجية سياسية، ومصالح وطنية، وتشكيلات جيوسياسيةــ فإن التقاطعية ضمن إطار وطني ومحلي أمر ممكن إلى حد كبير.
لقد كان هذا الأمر الأخير يتطلب على وجه الخصوص فهمًا عضويًا لنضالات كل مجموعة من تلك المجموعات، ودرجة كبيرة من الحركية الاجتماعية، والحب الحقيقي والتضامن ما بين بعضها البعض.
ولكن في حالة فلسطين، غالبًا ما يتم الخلط بين هذه الفكرة النبيلة والتضامن القابل للتفاوض والمعاملات، والذي قد ينجح على المسرح السياسي، خاصة خلال أوقات الانتخابات، ولكنه نادرًا ما يساعد في ترسيخ الروابط طويلة الأمد بين المجتمعات المضطهدة بمرور الوقت.
ومن المؤكد أن الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة في غزة ساعدت العديد من الجماعات على توسيع هوامش الوحدة حتى يتسنى لها العمل معًا لإنهاء إبادة غزة، ومحاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين بأي طريقة ممكنة.
ومع ذلك، يجب أن يستمر هذا الشعور الإيجابي فترة طويلة بعد انتهاء الإبادة الجماعية، حتى يتحرر الشعب الفلسطيني أخيرًا من نير الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.
يجب القول في هذا الصدد إنه لدينا بالفعل أسبابًا عديدة لتكريس الوحدة حول فلسطين والحفاظ عليها، من دون الحاجة إلى العمل على إيجاد أرضية مشتركة أيديولوجية أو سياسية أو أي نوع آخر.
إن المشروع الإسرائيلي الاستعماري الاستيطاني ليس سوى مظهر من مظاهر الاستعمار والإمبريالية الغربية في تعريفاتها الكلاسيكية. لا تختلف الإبادة الجماعية في غزة عن الإبادة الجماعية التي تعرض لها شعب الهيريرو والناما في ناميبيا في مطلع القرن العشرين.
كما أن التدخل الأمريكي الغربي في فلسطين لا يختلف عن الدور المدمر الذي لعبته الدول الغربية في فيتنام والعديد من الأماكن الأخرى المتنازع عليها في جميع أنحاء العالم.
إن وضع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في إطار استعماري ساعد الكثيرين على تحرير أنفسهم من المفاهيم المشوشة حول حقوق إسرائيل «الأصيلة» على الفلسطينيين.
وفي الواقع، فإنه لا يمكن أن يكون هناك أي مبرر لوجود إسرائيل باعتبارها «دولة يهودية» حصرية في أرض مملوكة تاريخيا للشعب الفلسطيني الأصلي دون سواه.
وعلى نفس المنوال، فإن «الحق الإسرائيلي في الدفاع عن النفس» الذي روج له كثيرًا، وهو المفهوم الذي يواصل بعض «التقدميين» ترديده كالببغاء، لا ينطبق على المحتلين العسكريين الذين هم في حالة عدوانية نشطة أو أولئك الذين ينفذون الإبادة الجماعية.
إن إبقاء التركيز على الأولويات الفلسطينية له فوائد أخرى أيضًا، بما في ذلك الوضوح الأخلاقي. أولئك الذين لا يجدون أن حقوق الشعب الفلسطيني مقنعة بما يكفي لتشكيل جبهة موحدة لم تكن نيتهم أبدًا أن يكونوا جزءًا من الحركة في المقام الأول، وبالتالي فإن «تضامنهم» سطحي، هذا إن كان يوما حقيقيًا على الإطلاق.
إن طريق تحرير فلسطين لا يمكن أن يمر إلا عبر فلسطين نفسها، وبشكل أكثر تحديدًا، عبر وضوح هدف الشعب الفلسطيني الذي دفع، أكثر من أي دولة أخرى في العصر الحديث، أغلى ثمن لحريته.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك