قال لي صاحبي، إن صاحبه ترقى وأصبح رئيس قسم في واحدة من المؤسسات التي تقدم خدمات للعملاء في أمور كثيرة، كان صاحب صاحبي إنسانا بسيطا لم يتعامل مع التجار وكبار الشخصيات قط.
ذات يوم دخل مكتبه أحد رجال الأعمال، وكان لهذا الرجل معاملة لم تكتمل بعد بسبب نقص في بعض الإجراءات التي كان لابد وأن تكتمل حتى يتم إنجاز المعاملة. جلس رجل الأعمال وتحدث عن نفسه وعمله وأمور كثيرة وكذلك تحدث عن المعاملة التي لم تنته، وطلب من صاحب صاحبي أن يكمل الإجراءات حتى ينجز العمل المطلوب. وعده رئيس القسم خيرًا، فطلب منه مهلة يومين حتى يرى الأوراق المطلوبة ومن ثم يتواصل معه.
وبالفعل قام رئيس القسم بطلب معاملة رجل الأعمال، ودرس مشروعه، فوجد أن الأمور لا تستدعي كل هذا التأخير، وإنما تحتاج إلى بعض الإجراءات السريعة حتى ينتهي الموضوع، فقام بحسن نية وطلب إنهاء الموضوع بأقصى سرعة، وبالفعل، فقبل أن تنتهي المدة المقررة، انتهى الموضوع، وتم الاتصال برجل الأعمال فأنجز عمله، وانتهى.
يقول صاحب صاحبي رئيس القسم؛ إلى هنا والموضوع عادي لا جديد، فهذه مهمة القسم والموظفين كلهم في خدمة العملاء.
ولكن وفي مساء ذات يوم، رن جرس باب المنزل، يقول رئيس القسم، فقلت لولدي: اذهب وأجب الباب. فذهب الابن ثم رجع، وهو يقول: هناك رجل على الباب يريدك. يقول فاستغربت، فأنا لا أنتظر زائر في هذا الوقت، ولكني ذهبت إلى الباب، وإذ هناك رجل على الباب وأمامه صندوق ورقي (كارتون) كبير، فقال: هذا هدية لك من (رجل الأعمال) لأنك أنجزت مهمته.
فقلت له: قل له شكرًا، فأنا من مهامي أن أنجز أعمال كل الناس وليس هو فقط.
فأصر الرجل، ولكني رفضت، فأغلقت الباب، ودخلت المنزل. وبعدها بدقائق سمعت هاتفي يرن، وإذ هو رجل الأعمال وهو يتعذر ويقول: لا تفهمني خطأ، فما هي إلا هدية بسيطة، لا تغني ولا تسمن من جوع، ولكنك ساعدتني كثيرًا لإنجاز المهمة، ثم أخذ يتحدث عن بعض الأمور من هنا وهناك.
فشكرته ثم طلبت منه ألا يعاود الكرة مرة أخرى، فالحمد لله مستورة.
تنتهي قصة صاحب صاحبي عند هذا الحد، ولكن خلال مسيرتي المهنية شاهدت وسمعت الكثير من القصص، التي يمكن أن تبدأ بتقديم زجاجة عطر صغيرة مثل دهن العود، وتنتهي ببناء منزل أو تركيب مكيفات منزل أو شراء سيارات، وما إلى ذلك، ومن الجدير بالذكر أن كل تلك تسمى (رشوة).
يروى في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً من بني أسد، يقال له ابن الأتبية على صدقة، فلما قدم قال: «هذا لكم وهذا أهدي لي». فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول هذا لك وهذا لي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا، والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرًا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، فقال: ألا هل بلغت ثلاثًا؟».
من الواضح أنه صلى الله عليه وسلم غضب من هذا الإنسان، لأنه أخذ (رشوة) أثناء تأدية عمله، فلماذا غضب صلى الله عليه وسلم؟ وهل الرشوة آفة ومشكلة يمكن أن يكون لها تأثير سلبي في المجتمع؟ كيف ذلك؟
تُعرف (الرشوة) ببساطة أنها إعطاء أو تلقي منفعة مادية أو معنوية بطريقة غير قانونية أو غير أخلاقية مقابل تحقيق مصلحة شخصية أو تجاوز القانون. وصور الرشوة كثيرة؛ ومن أبسطها أن يقدم إنسان ما مبلغ من المال لموظف حتى ينجز معاملتك بطريقة غير قانونية، أو حتى متجاوزًا كل العملاء الذين يسبقونك، أو تقدم بصورة هدايا، أو خدمات، أو وعود بمنافع مستقبلية تُقدم لطرف ذي سلطة أو تأثير بهدف التلاعب بالقرارات أو تحقيق مكاسب غير مستحقة، كل هذه رشاوى تحاسب عليها قوانين الدول، وإن غفلت عنها قوانين الدولة، فإن الله سبحانه وتعالى لا يغفل عنها.
وعلى الرغم من أن للرشوة بعض الفوائد للمعطي والآخذ، إلا أنه من الآفات التي تنخر في المجتمع، فكان لا بد من مكافحتها وتحريمها، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: تأثيرات الرشوة في المجتمع؛ أشارت العديد من الدراسات أن للرشوة آثارا سلبية واضحة المعالم على المجتمع، وحتى إن لم تكن ظاهرة مستشرية، بمعنى أن تكون مجرد عمل بسيط، وعلى نطاق ضيق، لأنها حتمًا ستنتشر يومًا إن لم تجد من لا يتصدى لها، ومن تلك الآثار:
1. ضعف العدالة والمساواة: تُضعف الرشوة مبدأ العدالة، حيث يحصل الأفراد الذين يقدمون الرشوة على امتيازات غير مستحقة مقارنة بغيرهم، مما يؤدي إلى انعدام المساواة في الحقوق والفرص، وهذا يعني أنه مهما وضعت قوانين وأنظمة فإن الرشوة ستُعرقل سيادة القانون، إذ يصبح القرار مبنيًا على النفوذ الشخصي بدلاً من الالتزام بالقوانين واللوائح.
2. انهيار الثقة بالمؤسسات: تبحث المؤسسات اليوم عن تنمية وتطوير صورتها الذهنية والمجتمعية بين أفراد المجتمع، ولكن بتعاطي الرشوة فإن ثقة المواطنين والعملاء في المؤسسات تضعف وربما تنهار، وخاصة عندما يشعر العملاء أن القرارات تُتخذ بناءً على مصالح شخصية لا على المصلحة العامة، لذلك ينتشر الإحباط ويضعف الشعور بالانتماء الوطني.
3. تدهور القيم الأخلاقية: وجدنا أن الرشوة تُشجع على الانحراف الأخلاقي، إذ تنقل رسالة بأن الغش والفساد وسيلة مقبولة لتحقيق النجاح، فتسهم في نشر ثقافة (الواسطة) والمحسوبية على حساب الكفاءة والنزاهة.
4. زيادة الفقر والبطالة: تؤدي الرشوة إلى توزيع غير عادل للموارد والخدمات، مما يفاقم مشكلة الفقر، وذلك لأنها تعيق تنفيذ المشاريع التنموية التي تستهدف تحسين حياة الأفراد، حيث تُهدر الأموال في شبكات الفساد بدلاً من استثمارها في مشروعات تعود بالنفع على المجتمع.
ثانيًا: تأثيرات الرشوة في تدهور الاقتصاد؛ نجد أن الرشوة تُعد أحد أسباب الفساد المالي والإداري، مما يؤدي إلى تبديد الموارد العامة وسوء استخدامها، وقلنا إنها تُضعف بيئة الأعمال والاستثمار؛ إذ إن المؤسسات التي لا تقدم الرشوة تواجه عقبات غير عادلة مقارنة بتلك التي تمارسها، ومن الأمور الأكثر وضوحًا في الجوانب الاقتصادية، هي:
1. زيادة تكاليف الأعمال، فالرشوة تؤدي إلى زيادة تكاليف العمليات التجارية حيث يتم دفع مبالغ غير مشروعة لتسهيل أو تسريع الإجراءات، وهذا يزيد من النفقات العامة ويؤدي إلى تحميل التكاليف على المستهلكين.
2. تقليل الكفاءة والإنتاجية، وعندما تصبح الرشوة وسيلة لتحقيق الأهداف، يتم تجاوز الكفاءات والمهارات الحقيقية، فالأشخاص الأقل كفاءة قد يشغلون مناصب مهمة بسبب الرشوة، مما يؤدي إلى تراجع الإنتاجية والأداء العام.
3. تشويه المنافسة، نجد أن الرشوة تشوه المنافسة العادلة بين المؤسسات، فالمؤسسات التي تدفع رشاوى قد تحصل على عقود ومشروعات غير مستحقة، مما يعرقل المؤسسات الأكثر كفاءة وعدلاً من المنافسة الشريفة.
4. تهديد الاستثمار الأجنبي، نعرف أن المستثمرين الأجانب يبحثون عن بيئات أعمال شفافة ونزيهة، ولكن انتشار الرشوة في بلد معين يمكن أن يردع الاستثمار الأجنبي، مما يؤدي إلى تقليل تدفق الأموال والاستثمارات إلى الاقتصاد المحلي.
5. تشجيع الفساد، نعرف جميعًا اليوم أن الرشوة تُعد واحدة من أشكال الفساد والآفات الاجتماعية المجتمعية، وهي تمهيد لزيادة الفساد في المجتمع بشكل عام، وهذا يمكن أن يؤدي إلى ثقافة سلبية تعيق النمو والتنمية المستدامة.
الحلول المستدامة لمكافحة الرشوة
وحتى نكون عمليين وموضوعيين، فإن مكافحة الرشوة أمر ممكن، ولكنها تتطلب الكثير من الجهود المتواصلة من قبل الحكومات والمؤسسات لفرض قوانين صارمة وتعزيز الشفافية والمساءلة، فالمحافظة على بيئة أعمال نزيهة والتشجيع على نمو اقتصادي مستدام، يستحق كل ذلك، ومن تلك الأساليب:
1. تعزيز الشفافية والمساءلة: وذلك عبر تطبيق القوانين الصارمة ضد الفساد، ونشر آليات واضحة للتقارير المالية والإدارية.
2. توعية المجتمع: من خلال برامج تعليمية وإعلامية لتوضيح أضرار الرشوة على الأفراد والمجتمع.
3. تمكين المؤسسات الرقابية: وذلك من خلال دعم الهيئات التي تعمل على مكافحة الفساد بالاستقلالية والموارد اللازمة.
4. تحفيز النزاهة: وذلك عبر تقديم حوافز مادية ومعنوية للأفراد والمؤسسات الملتزمة بالقوانين.
5. التقنية: وذلك باستخدام الحلول الرقمية لتقليل التعاملات البشرية التي قد تُستغل للرشوة، مثل تطبيق أنظمة الدفع الإلكتروني، وما شابه ذلك.
ولا يسعنا قبل أن نختم مقالنا إلا أن نذكركم بمنهجية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي منهج محاسبة الولاة والأمراء حين يبعثهم لعمل ما (من أين لك هذا ؟)، وعلى ذلك تروي كتب السير أن الفاروق عمر رضي الله عنه كتب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه وكان عامله على مصر: «من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص سلام عليك، أما بعد، فإنه بلغني أنك فشت لك فاشية من خيل وإبل وغنم وبقر وعبيد، وعهدي بك قبل ذلك أن لا مال لك، فاكتب إليَّ من أين أصل هذا المال، ولا تخفي عني شيئًا».
فالرشوة ليست مجرد سلوك غير أخلاقي، بل هي ظاهرة تقوض أسس التنمية والاستقرار في أي مجتمع، ومكافحتها تتطلب تضافر الجهود بين الأفراد، المؤسسات، والحكومات لبناء بيئة تُعلي من قيم العدالة والنزاهة.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك