العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

الدكتور الأنصاري.. لا نقول وداعا!

بقلم: عبدالرحمن علي البنفلاح

الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ - 02:00

ودَّع‭ ‬أهل‭ ‬الفكر‭ ‬والأدب‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬المفكرين‭ ‬الكبار‭ ‬بوفاة‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬جابر‭ ‬الأنصاري‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أُذِنَ‭ ‬له‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬بالرحيل،‭ ‬وذلك‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أثرى‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬بإصداراته‭ ‬العديدة‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬عديدا‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬أعلن‭ ‬فيها‭ ‬مواقفه‭ ‬المفصلية‭ ‬التي‭ ‬تميزت‭ ‬بها‭ ‬حياته‭ ‬الفكرية‭ ‬خالفه‭ ‬من‭ ‬خالفه،‭ ‬ووافقه‭ ‬من‭ ‬وافقه‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬وهو‭ ‬يجادل‭ ‬بالتي‭ ‬هي‭ ‬أحسن‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬انفتاح‭ ‬فكري،‭ ‬وإرادة‭ ‬فكرية‭ ‬حرة،‭ ‬والمفكرون‭ ‬والعلماء‭ ‬لا‭ ‬يغيبون‭ ‬بتغييب‭ ‬أجسادهم‭ ‬الثرى،‭ ‬بل‭ ‬يتحولون‭ ‬بأفكارهم‭ ‬وطروحاتهم‭ ‬إلى‭ ‬مواقف‭ ‬مبدأية‭ ‬تسير‭ ‬على‭ ‬نهجها‭ ‬الأجيال‭ ‬من‭ ‬بعدهم‭ ‬جيلا‭ ‬بعد‭ ‬جيل،‭ ‬وكلما‭ ‬غَيب‭ ‬الثرى‭ ‬مفكر‭ ‬ارتفعت‭ ‬نجمته‭ ‬في‭ ‬السماء‭ ‬لتواصل‭ ‬هداياتها‭ ‬لمن‭ ‬يطلب‭ ‬الهداية‭ ‬ويسعى‭ ‬إليها‭.‬

عرفت‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬جابر‭ ‬الأنصاري‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬لقاءاتنا‭ ‬الشخصية،‭ ‬وحضور‭ ‬ندواته‭ ‬الفكرية،‭ ‬ومشاركاته‭ ‬في‭ ‬المهرجانات‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬تقيمها‭ ‬دولة‭ ‬البحرين‭ ‬بين‭ ‬وقت‭ ‬وآخر،‭ ‬وكنت‭ ‬حريصًا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬للتعرف‭ ‬على‭ ‬فكره‭ ‬وطروحاته‭ ‬قد‭ ‬أوافقه‭ ‬في‭ ‬بعضها‭ ‬وأخالفه‭ ‬في‭ ‬البعض‭ ‬الآخر،‭ ‬ولقد‭ ‬صدر‭ ‬له‭ ‬كتاب‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬انتحار‭ ‬المفكرين‭ ‬العرب‭..‬لماذا؟‮«‬‭ ‬وحين‭ ‬قرأت‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬سارعت‭ ‬إلى‭ ‬قراءته‭ ‬والتعليق‭ ‬عليه‭ ‬بعنوان‭ ‬أدهش‭ ‬الدكتور‭ ‬الأنصاري،‭ ‬وكان‭ ‬العنوان‭ ‬المضاف،‭ ‬هو‭: ‬‮«‬هل‭ ‬هو‭ ‬نقص‭ ‬في‭ ‬التكوين‭ ‬أم‭ ‬مواجهة‭ ‬بغير‭ ‬سلاح‮»‬‭ ‬وضمانًا‭ ‬لوصول‭ ‬المقال‭ ‬نشرته‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬الأيام‭ ‬لأن‭ ‬الدكتور‭ ‬الأنصاري‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬كتابها،‭ ‬ثم‭ ‬اتصلت‭ ‬بالدكتور‭ ‬الأنصاري‭ ‬للتأكد‭ ‬من‭ ‬قراءته‭ ‬للمقال،‭ ‬وبالأخص‭ ‬عنوانه‭ ‬لغرابته‭ ‬بعض‭ ‬الشيء‭.‬

لقد‭ ‬ركزت‭ ‬في‭ ‬المقال‭ ‬على‭ ‬قضيتين،‭ ‬الأولى‭ ‬هي‭: ‬النقص‭ ‬في‭ ‬التكوين‭ ‬الثقافي‭ ‬لهؤلاء‭ ‬المفكرين،‭ ‬وبالتالي‭ ‬عليهم‭ ‬مراجعة‭ ‬مكوناتهم‭ ‬الفكرية‭ ‬أو‭ ‬تكوينهم‭ ‬الثقافي،‭ ‬وعلى‭ ‬هؤلاء‭ ‬المفكرين‭ ‬أن‭ ‬يعيدوا‭ ‬النظر،‭ ‬وأن‭ ‬يضيفوا‭ ‬إلى‭ ‬معمارهم‭ ‬الثقافي‭ ‬البعد‭ ‬الإيماني‭ ‬لأنهم‭ ‬لو‭ ‬علموا‭ ‬أنه‭ ‬مهما‭ ‬عظمت‭ ‬الخطوب،‭ ‬واشتدت‭ ‬المحن،‭ ‬فإن‭ ‬لهم‭ ‬ربا‭ ‬حيا‭ ‬لا‭ ‬يموت‭ ‬سبحانه،‭ ‬يقول‭ ‬تعالى‭ (‬وتوكل‭ ‬على‭ ‬الحي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يموت‭ ‬وسبح‭ ‬بحمده‭ ‬وكفى‭ ‬به‭ ‬بذنوب‭ ‬عباده‭ ‬خبيرا‭) ‬الفرقان‭ / ‬58‭. ‬وقال‭ ‬جل‭ ‬جلاله‭: (‬قل‭ ‬يا‭ ‬عبادي‭ ‬الذين‭ ‬أسرفوا‭ ‬إلى‭ ‬أنفسهم‭ ‬لا‭ ‬تقنطوا‭ ‬من‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬يغفر‭ ‬الذنوب‭ ‬جميعًا‭ ‬إنه‭ ‬هو‭ ‬الغفور‭ ‬الرحيم‭) ‬الزمر‭ / ‬53‭.‬

هذه‭ ‬الآية‭ ‬الجليلة‭ ‬من‭ ‬سورة‭ ‬الزمر‭ ‬تشكل‭ ‬ركنًا‭ ‬أساسًا‭ ‬في‭ ‬مكونات‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬تجعله‭ ‬يواجه‭ ‬البلاءات،‭ ‬ويصادم‭ ‬النوازل،‭ ‬وقلبه‭ ‬مطمئن‭ ‬بالإيمان‭.‬

هذه‭ ‬هي‭ ‬القضية‭ ‬الأولى،‭ ‬أما‭ ‬القضية‭ ‬الثانية،‭ ‬فهي‭ ‬في‭: ‬دخول‭ ‬المفكر‭ ‬العربي‭ ‬معاركه‭ ‬الفكرية‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬سلاحًا‭ ‬يستعين‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬البلاءات،‭ ‬فيشعر‭ ‬باليأس‭ ‬والإحباط،‭ ‬ولأنه‭ ‬ضعيف‭ ‬في‭ ‬يقينه،‭ ‬فتكون‭ ‬الغلبة‭ ‬والنصر‭ ‬لخصومه‭ ‬لأنهم‭ ‬يواجهون‭ ‬معاركهم‭ ‬بأسلحة‭ ‬أيًا‭ ‬كان‭ ‬شأنها،‭ ‬وهي‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تحقق‭ ‬لهم‭ ‬النصر‭ ‬التام،‭ ‬فعلى‭ ‬الأقل‭ ‬تؤجل‭ ‬هزيمتهم‭ ‬ولو‭ ‬بعد‭ ‬حين‭ ‬تتيح‭ ‬لهم‭ ‬الفرصة‭ ‬للمناورة‭ ‬والمحاولة‭ ‬حتى‭ ‬تهيئ‭ ‬لهم‭ ‬فرصة‭ ‬النصر‭ ‬الكامل‭.‬

وقد‭ ‬بَيَنَ‭ ‬الحق‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬السبيل‭ ‬لإعادة‭ ‬التوازن‭ ‬إلى‭ ‬نفوسنا،‭ ‬واستعادة‭ ‬قدرتنا‭ ‬على‭ ‬المواجهة،‭ ‬وإحياء‭ ‬القيم‭ ‬والمبادئ‭ ‬في‭ ‬نفوسنا،‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭: (‬وأعدوا‭ ‬لهم‭ ‬ما‭ ‬استطعتم‭ ‬من‭ ‬قوة‭ ‬ومن‭ ‬رباط‭ ‬الخيل‭ ‬ترهبون‭ ‬به‭ ‬عدو‭ ‬الله‭ ‬وعدوكم‭ ‬وآخرين‭ ‬من‭ ‬دونهم‭ ‬لا‭ ‬تعلمونهم‭ ‬الله‭ ‬يعلمهم‭ ‬وما‭ ‬تنفقوا‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الله‭ ‬يوف‭ ‬إليكم‭ ‬وأنتم‭ ‬لا‭ ‬تظلمون‭) ‬الأنفال‭ / ‬60‭.‬

انظروا‭ ‬كيف‭ ‬يتعامل‭ ‬الإسلام‭ ‬مع‭ ‬واقع‭ ‬الناس‭ ‬ليؤكد‭ ‬للبشرية‭ ‬صلاحيته‭ ‬الدائمة،‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬التكيف‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬الظروف،‭ ‬وعصور‭ ‬الإسلام‭ ‬شاهدة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬لا‭ ‬يمنع،‭ ‬ولا‭ ‬يصادر‭ ‬حق‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬الأمم‭ ‬التي‭ ‬عاصرها‭ ‬المسلمون‭ ‬حيث‭ ‬نقل‭ ‬المسلمون‭ ‬عن‭ ‬الأمم‭ ‬تجاربهم،‭ ‬وأكثر‭ ‬العصور‭ ‬سماحة‭ ‬في‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬الأمم‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬الإسلام‭ ‬والخلافة‭ ‬الراشدة،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ (‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬سلم‭) ‬وعهدي‭ ‬أبي‭ ‬بكر‭ ‬وعمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما‭) ‬حيث‭ ‬كثر‭ ‬فيهما‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬الأمم‭ ‬الأخرى‭.‬

كان‭ ‬هذا‭ ‬تعليقي‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬جابر‭ ‬الأنصاري‭ ‬‮«‬انتحار‭ ‬المفكرين‭ ‬العرب‭.. ‬لماذا؟‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬نقص‭ ‬في‭ ‬التكوين‭.. ‬أم‭ ‬مواجهة‭ ‬بغير‭ ‬سلاح؟‭ ‬وللتأكد‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬الدكتور‭ ‬الأنصاري‭ ‬لتعليقي‭ ‬هذا‭ ‬اتصلت‭ ‬به‭ ‬عبر‭ ‬الهاتف‭ ‬وسألته‭: ‬هل‭ ‬قرأت‭ ‬المقال‭ ‬وما‭ ‬رأيك‭ ‬مما‭ ‬فيه؟‭ ‬

فأخبرني‭ ‬أنه‭ ‬قرأ‭ ‬المقال‭ ‬وأنه‭ ‬في‭ ‬دهشة،‭ ‬وسألته‭ ‬وما‭ ‬رأيك‭ ‬فيه‭ ‬هل‭ ‬تتفق‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬التحليل‭ ‬الذي‭ ‬وصلت‭ ‬إليه،‭ ‬فأخبرني‭ ‬أنه‭ ‬يتفق‭ ‬معي‭ ‬فيما‭ ‬توصلت‭ ‬إليه‭ ‬بدليل‭ ‬أني‭ ‬قلت‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬فصول‭ ‬كتابي‭ ‬أن‭ ‬المفكر‭ ‬المسلم‭ ‬لديه‭ ‬من‭ ‬المناعة‭ ‬الإيمانية‭ ‬ما‭ ‬يحول‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬حياته‭..‬‮…‬‭ ‬رحم‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬جابر‭ ‬الأنصاري،‭ ‬وجعله‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬مقعد‭ ‬صدق‭ ‬عند‭ ‬مليك‭ ‬مقتدر‭. ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا