ودَّع أهل الفكر والأدب واحدًا من المفكرين الكبار بوفاة الدكتور محمد جابر الأنصاري بعد أن أُذِنَ له الله تعالى بالرحيل، وذلك بعد أن أثرى الفكر العربي بإصداراته العديدة التي تناولت عديدا من القضايا أعلن فيها مواقفه المفصلية التي تميزت بها حياته الفكرية خالفه من خالفه، ووافقه من وافقه كل ذلك وهو يجادل بالتي هي أحسن في ظل انفتاح فكري، وإرادة فكرية حرة، والمفكرون والعلماء لا يغيبون بتغييب أجسادهم الثرى، بل يتحولون بأفكارهم وطروحاتهم إلى مواقف مبدأية تسير على نهجها الأجيال من بعدهم جيلا بعد جيل، وكلما غَيب الثرى مفكر ارتفعت نجمته في السماء لتواصل هداياتها لمن يطلب الهداية ويسعى إليها.
عرفت الدكتور محمد جابر الأنصاري من خلال لقاءاتنا الشخصية، وحضور ندواته الفكرية، ومشاركاته في المهرجانات الأدبية التي تقيمها دولة البحرين بين وقت وآخر، وكنت حريصًا على ذلك للتعرف على فكره وطروحاته قد أوافقه في بعضها وأخالفه في البعض الآخر، ولقد صدر له كتاب بعنوان: «انتحار المفكرين العرب..لماذا؟« وحين قرأت هذا الكتاب سارعت إلى قراءته والتعليق عليه بعنوان أدهش الدكتور الأنصاري، وكان العنوان المضاف، هو: «هل هو نقص في التكوين أم مواجهة بغير سلاح» وضمانًا لوصول المقال نشرته في صحيفة الأيام لأن الدكتور الأنصاري واحد من كتابها، ثم اتصلت بالدكتور الأنصاري للتأكد من قراءته للمقال، وبالأخص عنوانه لغرابته بعض الشيء.
لقد ركزت في المقال على قضيتين، الأولى هي: النقص في التكوين الثقافي لهؤلاء المفكرين، وبالتالي عليهم مراجعة مكوناتهم الفكرية أو تكوينهم الثقافي، وعلى هؤلاء المفكرين أن يعيدوا النظر، وأن يضيفوا إلى معمارهم الثقافي البعد الإيماني لأنهم لو علموا أنه مهما عظمت الخطوب، واشتدت المحن، فإن لهم ربا حيا لا يموت سبحانه، يقول تعالى (وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا) الفرقان / 58. وقال جل جلاله: (قل يا عبادي الذين أسرفوا إلى أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم) الزمر / 53.
هذه الآية الجليلة من سورة الزمر تشكل ركنًا أساسًا في مكونات المثقف العربي تجعله يواجه البلاءات، ويصادم النوازل، وقلبه مطمئن بالإيمان.
هذه هي القضية الأولى، أما القضية الثانية، فهي في: دخول المفكر العربي معاركه الفكرية دون أن يحمل سلاحًا يستعين به على مواجهة البلاءات، فيشعر باليأس والإحباط، ولأنه ضعيف في يقينه، فتكون الغلبة والنصر لخصومه لأنهم يواجهون معاركهم بأسلحة أيًا كان شأنها، وهي إن لم تحقق لهم النصر التام، فعلى الأقل تؤجل هزيمتهم ولو بعد حين تتيح لهم الفرصة للمناورة والمحاولة حتى تهيئ لهم فرصة النصر الكامل.
وقد بَيَنَ الحق سبحانه وتعالى السبيل لإعادة التوازن إلى نفوسنا، واستعادة قدرتنا على المواجهة، وإحياء القيم والمبادئ في نفوسنا، قال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) الأنفال / 60.
انظروا كيف يتعامل الإسلام مع واقع الناس ليؤكد للبشرية صلاحيته الدائمة، وقدرته على التكيف مع كل الظروف، وعصور الإسلام شاهدة على أن الإسلام لا يمنع، ولا يصادر حق الناس في الاستفادة من تجارب الأمم التي عاصرها المسلمون حيث نقل المسلمون عن الأمم تجاربهم، وأكثر العصور سماحة في التفاعل مع الأمم هي في دولة الإسلام والخلافة الراشدة، وخاصة في عهد رسول الله (صلى الله عليه سلم) وعهدي أبي بكر وعمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) حيث كثر فيهما الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى.
كان هذا تعليقي على كتاب الدكتور محمد جابر الأنصاري «انتحار المفكرين العرب.. لماذا؟ هل هو نقص في التكوين.. أم مواجهة بغير سلاح؟ وللتأكد من قراءة الدكتور الأنصاري لتعليقي هذا اتصلت به عبر الهاتف وسألته: هل قرأت المقال وما رأيك مما فيه؟
فأخبرني أنه قرأ المقال وأنه في دهشة، وسألته وما رأيك فيه هل تتفق معي في التحليل الذي وصلت إليه، فأخبرني أنه يتفق معي فيما توصلت إليه بدليل أني قلت في أحد فصول كتابي أن المفكر المسلم لديه من المناعة الإيمانية ما يحول بينه وبين اللجوء إلى التخلص من حياته..… رحم الله تعالى الدكتور محمد جابر الأنصاري، وجعله الله تعالى في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك