نجحت الثورة السورية، وسقط أشد الأنظمة العربية استبدادا ودكتاتورية، وتنفس السوريون الصعداء، عاد الغائب، وأمِن الخائف، ورأى المغيبون في السجون شمس النهار مرة أخرى، ولكن كالعادة، تواجه مرحلة الانتقال من الثورة إلى الدولة عقبات وعراقيل داخلية وخارجية.
الغرب يساوم القيادة السورية الحالية، فيلاحق إعلاميوه الجولاني بأسئلة تفصيلية، تدور في فلك تحديد المسافة بين واقع الدولة المقبل والحكم الإسلامي، بهدف ابتزاز الثورة بورقة الاعتراف الدولي بشرعيتها، مقابل التماهي مع الأجندة الغربية، التي تريد التحكم في الهوية السورية.
يحومون حول قضايا حرية المرأة وحقوقها، وهم الذين صمتوا عن قتل واغتصاب الآلاف من السوريات في سجون الطاغية، وتركوا النازحات يواجهن الموت فرارا من البطش، ومن تنجو منهن تعيش في خيمة لا تختلف عن العراء كثيرا.
هو ذاته موقفهم من النساء في غزة، اللاتي يتم إبادتهن من دون رحمة، وتُركنَ يأكلن من خشاش الأرض، وأُهدر حقهن في الحياة، فعن أي حقوق للمرأة يتحدثون؟ حقوق المرأة التي ينشدون الاطمئنان عليها في الواقع السوري، ليست سوى المظاهر العلمانية التي لا يقبلها الإسلام ولا التقاليد المحلية والأعراف السورية المحافظة، حقوق المرأة التي يعنونها هي التحلل من أي ضابط لهيئتها ولباسها، ومزاحمة الرجل في نطاق اختصاصه ومهامه، بدعوى المساواة بين الجنسين، والحق المزعوم في اختيار أحد الأشكال الشاذة للأسرة التي يحاول الغرب تصديرها، من خلال مؤتمرات السكان وتعافها الفطرة السليمة، تلك حقوق المرأة التي ينشدونها في المجتمع السوري.
يسألون عن مصير المشروبات الكحولية في حياة السوريين في ظل القيادة الجديدة، وكأنها مسألة مصيرية، وكأن أمان السوريين واستقرارهم مرهون بإباحة هذه المشروبات، في الوقت الذي كانوا يغضون البصر عن كميات المخدرات المهولة التي كان يصدرها نظام الأسد وجنرالاته للدول الأخرى، لكنهم لم يتطرقوا إلى الحديث عن المخدرات، لأن القانون يجرمها بالأساس، أما المشروبات الكحولية فهي محرمة دينيا، مع أن تلك الكحوليات والمخدرات كلاهما يذهب ويفسد العقل والبدن.
نراهم يتحدثون عن حقوق الأقليات، وكأن هذه الأقليات كانت تنعم بالأمن والسلام ورغد العيش في ظل حكم الطاغية بشار، الذي أذل جميع الطوائف والقوميات والعرقيات، مع أنه كان يطرح نفسه على أنه حامي الأقليات مقابل الأغلبية السنية، ويُسأل عن ذلك المسيحيون الذين آثر عدد كبير منهم الهجرة في ظل حكم بشار، كما هاجرت شريحة من الأرثوذوكس اليونانيين إلى روسيا طلبا للحماية، فالحاصل أن بشار لم يكن يحمي الأقليات، وإنما كان يحتمي بها من المجتمع الدولي. المسلك الغربي مع الحكومات الجديدة معروف وواضح، إما الاستجابة لأجنداته، وإما عزلة دولية تطوق هذه القيادة وتؤدي إلى اقتصاد هش وأوضاع داخلية مضطربة.
أما في الداخل، فبعد أن كانت الأصوات المعارضة لنظام بشار خامدة منزوية في جلدها، بسبب سياسة الحكم القمعي الذي ينال من مستخدم لمواقع التواصل الاجتماعي لمجرد علامة إعجاب يضعها على تغريدة لأحد المعارضين، انطلقت بعد سقوط هذا النظام أصوات تتجمهر وتتظاهر من أجل المطالبة بدولة علمانية وعدم القبول بالحكم الجديد.
وقطعا هذا أمر طبيعي بعد أن يتنفس الناس الصعداء ويتنسمون الحرية بعد الكبت والقهر، وبعد أن يجد كل صاحب فكر أو أيديولوجية المجال لأن ينافح عن مشربه ومنحاه وأفكاره ويريد لها السؤدد. لكن المشكلة تكمن في أن هذه المطالب يتم طرحها في توقيت حرج، في مرحلة انتقالية للثورة إلى دولة مؤسسات، وكان الأولى هو اصطفاف الشعب حول قيادته الجديدة التي قادت مسيرة إسقاط النظام وتخليص الشعب السوري منه.
كان الأولى هو وحدة الصف والتعاضد مع القوى التي أنقذت الشعب السوري، للتخلص من آثار استبداد حكم الأسد، الذي ترك خزينة الدولة فارغة، وخلّف إرثا من الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية يحتاج إلى عقود من أجل إعادة بنائه.
لقد أثبت النظام البائد بما لا يدع مجالا للشك، أن أي سيناريوهات مستقبلية لسوريا لا يمكن أن تضاهي ما كانت عليه البلاد في عهد بشار، بعد أن ظهر للعلن ما كان غائبا أو مغيبا عنا، فما مارسه هذا النظام بحق الشعب السوري سيظل أحد أبشع الكوارث التي تضمنتها صفحات التاريخ، سوف تذكر الأجيال القادمة مآسي سجن صيدنايا، كما نذكر إلى اليوم محاكم التفتيش في إسبانيا، فلم الخوف والقلق من الحكومة المقبلة مهما كانت توجهاتها؟
أتفهم أن هناك مخاوف من خلفية القيادة الجديدة، وتحديدا من الارتباط السابق للجولاني بـ«القاعدة» و«جبهة النصرة»، لكن الأيام كفيلة بإنضاج الفكر وبلورته وفق متطلبات الدولة لا الجماعة، والرجل يعي أن مقومات وجود قوات المعارضة في الحياة الجديدة بسوريا هي التوافق الوطني والتعامل وفق الدستور الذي يتوافق عليه السوريون، دون إقصاء أي من أطراف المكوّن السوري، على مبدأ سوريا للجميع، فلا مجال في الحالة السورية للحكم الفردي مرة أخرى.
الضامن لتحقيق ذلك هو الشعب السوري نفسه، الذي ازداد وعيا إلى وعيه، بعد أن ذاق الأمرّين تحت حكم الطاغية، هذا الشعب الذي عرف طريق الثورة، لن يسمح لأي قوة حاكمة بالاستبداد، بعد أن استمد جسارته من طول أمد المعاناة، إضافة إلى ذلك، فإن أي حكومة جديدة تعلم جيدا أن التجربة السورية سوف تكون محل أنظار العالم أجمع، وكما أن هناك من يستبشر هناك أيضا من يترصد ولن يتوانى في اصطياد أي مظاهر طائفية أو عنصرية لحكم الإسلاميين ـ على افتراض وجوده – وكلنا يعلم أن الجولاني الذي يمثل القيادة العليا في الوقت الراهن يسلك مع الغرب مسلك المقاربة، لأنه لا يرغب بعزل سوريا، بل يأمل في إقامة علاقات جيدة إقليما ودوليا ما يتيح للقيادة الجديدة العمل في أمان لإعادة بناء سوريا.
ليس هناك مبرر للمخاوف من حكم ذي صبغة إسلامية، فالحكم الإسلامي ليس هو «داعش» وقطع الرقاب، وليس حمْل الناس على مجموعة من الاختيارات الفقهية التي تغلب جانب الاحتياط، بل هو حكم على مبدأ الشورى وتداول السلطة، ورعاية وحفظ حقوق الأقليات على مبدأ المواطنة، والتوسعة على الجماهير فيما اختُلف فيه في الفقه الإسلامي، وإرساء قيم العدل والرحمة والتسامح، والمساواة أمام القضاء، وهذا كله قد نظّر له أحمد الشرع في هذه الآونة، وأعتقد أن الرجل لن يتنكر لذلك ولن يستطيع.
الشعب السوري بحاجة إلى وحدة الصف وإعلاء المصالح العليا للوطن، لاجتياز هذه المرحلة الحرجة، التي يساوم فيها الغرب القيادة السورية ويبتزها مقابل الاعتراف بها، والاصطفاف حول الحكومة الجديدة وحده هو الذي تستطيع من خلاله سوريا النجاة من هيمنة الغرب، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
{ كاتبة من الأردن
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك