العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

صفحات أخرى من أوراق جدي القديمة.. التزم الصمت

بقلم: د. زكريا الخنجي

الأحد ١٧ نوفمبر ٢٠٢٤ - 02:00

ذات‭ ‬مساء،‭ ‬وجدتني‭ ‬ضجرت‭ ‬من‭ ‬الضجيج‭ ‬المحيط‭ ‬بي،‭ ‬والعمل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينتهي،‭ ‬ووسائل‭ ‬التواصل‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تسكت،‭ ‬أقفلت‭ ‬جهاز‭ ‬الحاسوب‭ ‬والهاتف،‭ ‬دخلت‭ ‬غرفة‭ ‬المكتبة‭ ‬لعلي‭ ‬أجد‭ ‬رواية‭ ‬أو‭ ‬كتابا‭ ‬في‭ ‬الخواطر‭ ‬أتسلى‭ ‬به‭ ‬حتى‭ ‬أزيل‭ ‬ضجري‭.‬

وأثناء‭ ‬ذلك‭ ‬وقع‭ ‬بصري‭ ‬على‭ ‬صندوق‭ ‬جدي‭ ‬الحديدي‭ ‬القديم‭ ‬جدًا‭ ‬يشاكسني‭ ‬وكأنه‭ ‬يبتسم،‭ ‬ويدعوني‭ ‬إلى‭ ‬التسامر‭ ‬معه،‭ ‬فقلت‭ ‬في‭ ‬نفسي‭: ‬‮«‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أجد‭ ‬سلوتي‭ ‬في‭ ‬أوراق‭ ‬جدي‭ ‬القديمة‭ ‬الصفراء‭ ‬؟‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬الحقيقة‭ ‬فأنا‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أقاوم‭ ‬هذه‭ ‬الدعوة‭ ‬من‭ ‬جدي،‭ ‬فكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬أجد‭ ‬سلوتي‭ ‬وسكوني‭ ‬بين‭ ‬أحضان‭ ‬جدي‭ ‬وأوراقه‭ ‬العتيقة‭.‬

وجدتني‭ ‬أقلب‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأوراق‭ ‬بحذر‭ ‬شديد‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تتمزق،‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬حفظتها‭ ‬بقطع‭ ‬من‭ ‬البلاستيك‭ ‬الحراري‭ ‬الشفاف‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تتلف،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬فإني‭ ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬حذرًا‭ ‬مع‭ ‬جدي‭ ‬وأوراقه‭.‬

وأنا‭ ‬أقلب‭ ‬تلك‭ ‬الأوراق‭ ‬وقعت‭ ‬قصاصة‭ ‬ورقة‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬مذيلة‭ ‬بهذه‭ ‬العبارة‭ ‬‮«‬نسخة‭ ‬منها‭ ‬للأخ‭ ‬عبد‭ ‬السلام‭ ‬محمود‭ ‬حتى‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬رشده‮»‬،‭ ‬ولقد‭ ‬اقتبست‭ ‬عنوان‭ ‬المقال‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬عنوان‭ ‬القصاصة‭ (‬التزم‭ ‬الصمت‭)‬،‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬مناسبة‭ ‬هذه‭ ‬القصاصة،‭ ‬ولكن‭ ‬وكأن‭ ‬جدي‭ ‬أرسلها‭ ‬إلى‭ ‬صديقه‭ ‬ليحاول‭ ‬أن‭ ‬يقدم‭ ‬له‭ ‬بعض‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬الصمت،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬تحوي‭ ‬بعض‭ ‬الحكم‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالصمت،‭ ‬فرحت‭ ‬أقرأ‭ ‬تلك‭ ‬الحكم،‭ ‬وهي‭ ‬كالتالي‭:‬

1‭. ‬عندما‭ ‬نولد،‭ ‬يكون‭ ‬أول‭ ‬كلامنا‭ ‬وخروجنا‭ ‬عن‭ ‬صمتنا‭ ‬لحظة‭ ‬فرح،‭ ‬أما‭ ‬عندما‭ ‬نكبر‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬كثرة‭ ‬الكلام‭ ‬لا‭ ‬تجر‭ ‬شيئًا‭ ‬سوى‭ ‬الخيبة‭ ‬والألم‭ ‬والحزن،‭ ‬لذلك‭ ‬نصمت‭ ‬لنحافظ‭ ‬على‭ ‬أنفسنا‭ ‬وأهل‭ ‬بيتنا‭.‬

2‭. ‬الصمت‭ ‬يا‭ ‬صاحبي‭ ‬لغتي‭ ‬فاعذروني‭ ‬لقلّة‭ ‬كلامي،‭ ‬فربّما‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬حولي‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬الكلام،‭ ‬فهُناك‭ ‬أسئلة‭ ‬لا‭ ‬يُجاب‭ ‬عنها‭ ‬إلّا‭ ‬بالسكوت،‭ ‬وعندما‭ ‬يتحول‭ ‬الحب‭ ‬إلى‭ ‬كراهية‭ ‬والتضحية‭ ‬إلى‭ ‬نكران‭ ‬والإنسان‭ ‬إلى‭ ‬وحش‭ ‬لا‭ ‬نملك‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬نصمت‭.‬

3‭. ‬لا‭ ‬تعيبوا‭ ‬صمتي‭ ‬أرجوكم،‭ ‬بل‭ ‬عيبوا‭ ‬على‭ ‬الزمان‭ ‬الذي‭ ‬أجبرني‭ ‬وألجأني‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الصمت‭ ‬المطبق،‭ ‬هذا‭ ‬حالي‭ ‬الآن‭ ‬وغدًا‭ ‬فإذا‭ ‬لم‭ ‬تتحمَّلوا‭ ‬فارحلوا‭.‬

4‭. ‬الحزن‭ ‬الذي‭ ‬أصابني‭ ‬بسببكم‭ ‬جعلني‭ ‬أصمت،‭ ‬ليس‭ ‬خوفًا‭ ‬منكم،‭ ‬بل‭ ‬لأنني‭ ‬إذا‭ ‬تحدثت‭ ‬سأوجعكم‭ ‬كثيرًا‭. ‬

5‭. ‬إنني‭ ‬مهما‭ ‬وصفت‭ ‬لكم‭ ‬الحزن‭ ‬الذي‭ ‬أمر‭ ‬به‭ ‬واخترت‭ ‬كلمات‭ ‬منمقة‭ ‬فإنني‭ ‬لن‭ ‬أوفيه‭ ‬حقه‭ ‬أبدًا،‭ ‬لذلك‭ ‬أختار‭ ‬الصمت‭ ‬الذي‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يعبر‭ ‬بأفضل‭ ‬من‭ ‬الكلام‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الألم‭.‬

6‭. ‬لو‭ ‬تحدث‭ ‬الناس‭ ‬فيما‭ ‬يعرفونه‭ ‬فقط‭ ‬لساد‭ ‬الهدوء‭.‬

جلست‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬فرحت‭ ‬أقلب‭ ‬الورقة‭ ‬بين‭ ‬يدي،‭ ‬وأقول‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬‮«‬من‭ ‬أين‭ ‬تأتي‭ ‬بهذا‭ ‬الكلام‭ ‬يا‭ ‬جدي،‭ ‬رحمك‭ ‬الله‮»‬،‭ ‬جلست‭ ‬هناك‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬كم‭ ‬من‭ ‬الوقت،‭ ‬وأفكاري‭ ‬تروح‭ ‬وتطير‭ ‬بين‭ ‬لغات‭ ‬الصمت‭ ‬في‭ ‬حضارات‭ ‬العالم،‭ ‬فكم‭ ‬خسر‭ ‬الإنسان‭ ‬بسبب‭ ‬كثرة‭ ‬كلامه‭ ‬وقلة‭ ‬سكوته؟‭ ‬ربما‭ ‬انهارت‭ ‬حضارات‭ ‬ومفاوضات‭ ‬وصفقات‭ ‬بسبب‭ ‬كثرة‭ ‬الكلام،‭ ‬وربما‭ ‬ربح‭ ‬الإنسان‭ ‬نفسه‭ ‬عندما‭ ‬سكت‭ ‬قليلاً‭ ‬وراح‭ ‬يجمع‭ ‬أوراقه‭ ‬وأفكاره‭.‬

وأنا‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬مع‭ ‬جدي‭ ‬راودني‭ ‬سؤال،‭ ‬وهو‭: ‬متى‭ ‬يكون‭ ‬الصمت‭ ‬أبلغ‭ ‬من‭ ‬الكلام؟

وجدت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بحثي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬أن‭ ‬الصمت‭ ‬عادة‭ ‬يكون‭ ‬أبلغ‭ ‬من‭ ‬الكلام‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المواقف،‭ ‬ولكن‭ ‬لنحاول‭ ‬أن‭ ‬نلخص‭ ‬بعضًا‭ ‬منها؛‭ ‬مثل‭:‬

الصمت‭ ‬أبلغ‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الغضب؛‭ ‬عندما‭ ‬وصف‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬الغضب،‭ ‬قال‭: ‬‮«‬الغضب‭ ‬جمرة‭ ‬يلقيها‭ ‬الشيطان‭ ‬في‭ ‬جوف‭ ‬بني‭ ‬آدم‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬‭ ‬كما‭ ‬يوضح‭ ‬علماء‭ ‬النفس‭ ‬‭ ‬أن‭ ‬الغضب‭ ‬هو‭ ‬تغير‭ ‬يحصل‭ ‬للإنسان‭ ‬عند‭ ‬فوران‭ ‬دم‭ ‬القلب،‭ ‬حتى‭ ‬يرتفع‭ ‬إلى‭ ‬أعالي‭ ‬البدن،‭ ‬فتنتفخ‭ ‬به‭ ‬العروق‭ ‬والأوداج،‭ ‬ويحمر‭ ‬الوجه‭ ‬والعينان،‭ ‬ويولد‭ ‬عنده‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬الانتقام‭ ‬ويجعله‭ ‬يتصرف‭ ‬تصرفات‭ ‬لا‭ ‬يرتضيها‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬السكون‭ ‬والهدوء،‭ ‬وهذا‭ ‬في‭ ‬الغضب‭ ‬الذي‭ ‬يكون‭ ‬معه‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الانتقام،‭ ‬فأما‭ ‬مع‭ ‬العجز‭ ‬واليأس‭ ‬من‭ ‬الانتقام‭ ‬فإنه‭ ‬يتولد‭ ‬معه‭ ‬انقباض‭ ‬في‭ ‬الدم،‭ ‬فيكون‭ ‬من‭ ‬علامته‭ ‬اصفرار‭ ‬الوجه‭.‬

لذلك‭ ‬يصبح‭ ‬الصمت‭ ‬هو‭ ‬الفضيلة‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الغضب،‭ ‬ففي‭ ‬حالة‭ ‬الغضب‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتصرف‭ ‬الإنسان‭ ‬بطريقة‭ ‬حتمًا‭ ‬سيندم‭ ‬عليها‭ ‬لاحقًا‭ ‬حينما‭ ‬لا‭ ‬ينفع‭ ‬الندم‭. ‬ولا‭ ‬نعني‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬المتحدث‭ ‬فقط‭ ‬وإنما‭ ‬حتى‭ ‬مع‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر،‭ ‬فعندما‭ ‬نجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬غضبنا‭ ‬من‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬وارتفع‭ ‬صوتنا‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬الأفضل‭ ‬أن‭ ‬نسكت،‭ ‬وكذلك‭ ‬عندما‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬ارتفع‭ ‬صوته‭ ‬وغضب،‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬الفضيلة‭ ‬أن‭ ‬يصمت‭. ‬

الصمت‭ ‬أبلغ‭ ‬حينما‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نحافظ‭ ‬على‭ ‬علاقاتنا‭ ‬العامة؛‭ ‬نعرف‭ ‬جميعًا‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬فرد‭ ‬من‭ ‬مجتمع،‭ ‬سواء‭ ‬كنا‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭ ‬الصغير،‭ ‬الأسرة‭ ‬مثلاً،‭ ‬أو‭ ‬المجتمع‭ ‬الكبير،‭ ‬ففي‭ ‬كل‭ ‬الحالات‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬أبدًا‭ ‬أن‭ ‬يستغني‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬العلاقات‭. ‬وبين‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭ ‬يحدث‭ ‬كلام‭ ‬كثير،‭ ‬وجدل،‭ ‬ونقاش‭ ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬فائدة،‭ ‬وإنما‭ ‬نناقش‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬نتحدث،‭ ‬وربما‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬الكثير‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الخلافات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬بادئ‭ ‬الأمر‭ ‬بسيطة،‭ ‬ولكنها‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت‭ ‬تتغول،‭ ‬ويصبح‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬البداية‭ ‬عملية‭ ‬مستحيلة،‭ ‬وعند‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬يتوقف‭ ‬العقل‭ ‬عن‭ ‬التفكير،‭ ‬فتكون‭ ‬أسهل‭ ‬وسيلة‭ ‬تحطيم‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬هذا‭ ‬مع‭ ‬ذاك‭. ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬العقل‭ ‬والحكمة‭ ‬أنه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬اللاعودة‭ ‬أن‭ ‬نصمت،‭ ‬فليس‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬ندافع‭ ‬عن‭ ‬كرامتنا‭ ‬وعقلنا‭ ‬وآرائنا،‭ ‬وليس‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬أحافظ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يناقشني‭ ‬وربما‭ ‬يجادل‭ ‬بكل‭ ‬عنف‭ ‬وقسوة،‭ ‬وإنما‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬أحافظ‭ ‬على‭ ‬كرامتي‭ ‬بالصمت‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬أنجرف‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬الهاوية،‭ ‬فتتحطم‭ ‬العلاقات‭ ‬وتتحول‭ ‬العلاقة‭ ‬الحميمية‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬وكراهية‭.   ‬

الصمت‭ ‬أبلغ‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬انتهاء‭ ‬الكلام؛‭ ‬نجلس‭ ‬في‭ ‬مجالس‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬اجتماعات،‭ ‬نتحدث‭ ‬سواء‭ ‬بصورة‭ ‬مباشرة‭ ‬أو‭ ‬عبر‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تسكت،‭ ‬نتناقش‭ ‬ونتجادل،‭ ‬والكثير‭ ‬منا‭ ‬يحب‭ ‬النقاش‭ ‬والجدل،‭ ‬يتحدث‭ ‬لمجرد‭ ‬أنه‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬التحدث،‭ ‬يناقش‭ ‬هذا‭ ‬ويتناقش‭ ‬مع‭ ‬ذاك،‭ ‬يفند‭ ‬رأي‭ ‬هذا‭ ‬ويسخر‭ ‬من‭ ‬رأي‭ ‬ذاك،‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬الحديث،‭ ‬فبالحديث‭ ‬يتنفس‭ ‬ويتغذى‭. ‬أما‭ ‬نحن‭ ‬فعندما‭ ‬نشعر‭ ‬أننا‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬في‭ ‬جعبتنا‭ ‬كلمة‭ ‬إضافية‭ ‬أو‭ ‬قلنا‭ ‬ما‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نقوله‭ ‬وأن‭ ‬نوضحه‭ ‬فإنه‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نتوقف‭ ‬عن‭ ‬الحديث‭ ‬ونسكت،‭ ‬فالمرء‭ ‬يعرف‭ ‬نفسه‭ ‬ويعرف‭ ‬أفكاره‭ ‬وآراءه‭. ‬فعندما‭ ‬نتناقش‭ ‬ونتحدث‭ ‬أمام‭ ‬الآخرين‭ ‬حتمًا‭ ‬سنصل‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬نشعر‭ ‬فيها‭ ‬أننا‭ ‬قلنا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نريد‭ ‬قوله،‭ ‬سواء‭ ‬اقتنع‭ ‬الذي‭ ‬أمامنا‭ ‬أو‭ ‬لم‭ ‬يقتنع،‭ ‬عند‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬من‭ ‬الأفضل‭ ‬أن‭ ‬نصمت،‭ ‬فالحديث‭ ‬إن‭ ‬طال‭ ‬تكرر،‭ ‬وإن‭ ‬تكرر‭ ‬أصبح‭ ‬مملاً‭ ‬وغير‭ ‬مستساغ،‭ ‬لذلك‭ ‬يصبح‭ ‬الصمت‭ ‬فضيلة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭.‬

الصمت‭ ‬أبلغ‭ ‬حينما‭ ‬يتحول‭ ‬الحديث‭ ‬إلى‭ ‬جدل؛‭ ‬أن‭ ‬نتناقش‭ ‬وأن‭ ‬نتحاور‭ ‬فهذا‭ ‬حق‭ ‬مشروع،‭ ‬ولكن‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬الجدال‭ ‬فهذا‭ ‬أمر‭ ‬غير‭ ‬مرغوب‭ ‬ولا‭ ‬محمود،‭ ‬فالجدل‭ ‬يعني‭ ‬ببساطة‭ ‬أن‭ ‬نلزم‭ ‬الخصم‭ ‬برأينا‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كنا‭ ‬على‭ ‬خطأ،‭ ‬وهذا‭ ‬يحدث‭ ‬اليوم‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬ففي‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الوسائل‭ ‬يتفرد‭ ‬بعض‭ ‬الأشخاص‭ ‬بالرأي‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يتركوا‭ ‬مجالاً‭ ‬للآخرين‭ ‬بالتحدث،‭ ‬وإن‭ ‬تركوهم‭ ‬يتحدثون‭ ‬للحظات،‭ ‬فإنهم‭ ‬يقفزون‭ ‬على‭ ‬حديثهم‭ ‬ويحاولون‭ ‬بشتى‭ ‬الطرق‭ ‬أن‭ ‬يقللوا‭ ‬من‭ ‬آرائهم‭ ‬وأفكارهم‭ ‬وشأنهم،‭ ‬وكأنهم‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬يمتلكون‭ ‬الحقيقة‭ ‬فقط‭. ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬القضايا‭ ‬السياسة‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬حولنا‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭. ‬لذلك‭ ‬نقول‭ ‬إنه‭ ‬عندما‭ ‬تجد‭ ‬أن‭ ‬الذي‭ ‬يتحدث‭ ‬معك‭ ‬انزلق‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬الجدال،‭ ‬فمن‭ ‬الأجدى‭ ‬أن‭ ‬تتوقف‭ ‬أنت،‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬العقل‭ ‬والحكمة‭ ‬أن‭ ‬تتركه‭ ‬يجرك‭ ‬معه‭ ‬ليرضي‭ ‬غروره،‭ ‬فإن‭ ‬صمت‭ ‬أنت‭ ‬فإنك‭ ‬تحطم‭ ‬غروره‭ ‬هو،‭ ‬فيشعر‭ ‬حينها‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬مأزق،‭ ‬لذلك‭ ‬فإنه‭ ‬يستمر‭ ‬في‭ ‬الجدل‭ ‬وحده‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬الآخرون‭ ‬أنه‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬في‭ ‬جعبته‭ ‬الكثير،‭ ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬يشعر‭ ‬من‭ ‬داخله‭ ‬أنه‭ ‬مهزوم‭ ‬ومجروح،‭ ‬لذلك‭ ‬يحاول‭ ‬لعل‭ ‬ذلك‭ ‬يشعره‭ ‬بالرضا،‭ ‬ولكن‭ ‬هيهات‭.‬

الصمت‭ ‬أبلغ‭ ‬حينما‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬جديدة؛‭ ‬عندما‭ ‬تنضم‭ ‬إلى‭ ‬فريق‭ ‬عمل‭ ‬جديد،‭ ‬أو‭ ‬وظيفة‭ ‬جديدة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬مجموعة‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬جديدة،‭ ‬من‭ ‬الأجدى‭ ‬ألا‭ ‬تتكلم‭ ‬كثيرًا،‭ ‬وأن‭ ‬تترك‭ ‬الآخرين‭ ‬يتحدثون،‭ ‬حتى‭ ‬تتعرف‭ ‬عليهم،‭ ‬فلا‭ ‬تستعرض‭ ‬عضلاتك‭ ‬عليهم‭ ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬بارعًا‭ ‬في‭ ‬الأمور،‭ ‬ففي‭ ‬البداية‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬تصغي،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬صمتك‭ ‬أطول‭ ‬من‭ ‬حديثك،‭ ‬حينئذ‭ ‬سيتبرع‭ ‬الآخرون‭ ‬بالشرح‭ ‬والحديث‭ ‬ليحاولوا‭ ‬أن‭ ‬يرشدوك‭ ‬ويعلموك،‭ ‬وأنت‭ ‬حينها‭ ‬تصغي‭ ‬وتتعرف‭ ‬على‭ ‬الآراء‭ ‬والأفراد،‭ ‬وربما‭ ‬تجد‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الآراء‭ ‬التي‭ ‬تقال‭ ‬وتتردد‭ ‬مجرد‭ ‬أمور‭ ‬بسيطة‭ ‬وأنت‭ ‬تعرفها‭ ‬إذ‭ ‬إنها‭ ‬من‭ ‬المسلمات،‭ ‬ولكنك‭ ‬أنت‭ ‬لست‭ ‬ملزمًا‭ ‬أن‭ ‬تأخذ‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يقال،‭ ‬وإنما‭ ‬صمتك‭ ‬يعني‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الجميع‭ ‬أنك‭ ‬جيد‭ ‬الإصغاء‭ ‬وبالتالي‭ ‬فأنت‭ ‬إنسان‭ ‬مهذب‭ ‬وذو‭ ‬قدرة‭ ‬عالية‭ ‬على‭ ‬التواصل‭. ‬

الصمت‭ ‬أبلغ‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬التفاوض؛‭ ‬عادة‭ ‬ندخل‭ ‬في‭ ‬عمليات‭ ‬التفاوض،‭ ‬بسبب‭ ‬أو‭ ‬بآخر،‭ ‬وفي‭ ‬التفاوض‭ ‬يحدث‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الكلام،‭ ‬هذا‭ ‬يقول‭ ‬وذاك‭ ‬يتحدث،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬الذكاء‭ ‬التفاوضي‭ ‬أن‭ ‬تصمت‭ ‬أطول‭ ‬فترة‭ ‬ممكنة،‭ ‬وتصغي‭ ‬بكل‭ ‬ذكاء‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬يقال،‭ ‬فلا‭ ‬تثرثر‭ ‬أثناء‭ ‬كل‭ ‬مراحل‭ ‬التفاوض‭ ‬وإنما‭ ‬اجعل‭ ‬صمتك‭ ‬أطول‭ ‬فترة‭ ‬ممكنة،‭ ‬وعندما‭ ‬ينتهي‭ ‬المفاوضون‭ ‬ويلقون‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬لديهم‭ ‬حينها‭ ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تتحدث‭ ‬وتقول‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬بكل‭ ‬حرفية‭ ‬ومنهجية‭.‬

الصمت‭ ‬أبلغ‭ ‬عندما‭ ‬تتحدث‭ ‬مع‭ ‬أحد‭ ‬الوالدين؛‭ ‬لا‭ ‬ترفع‭ ‬صوتك‭ ‬ولا‭ ‬تجادل‭ ‬أحد‭ ‬أبويك‭ ‬مهما‭ ‬كنت‭ ‬على‭ ‬حق،‭ ‬فالحق‭ ‬في‭ ‬لسانهما‭ ‬وعقلهما‭ ‬مهما‭ ‬كانا‭ ‬على‭ ‬خطأ،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كبرا‭ ‬في‭ ‬السن،‭ ‬ففي‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬ليس‭ ‬المطلوب‭ ‬منك‭ ‬أن‭ ‬تبرهن‭ ‬لأحد‭ ‬والديك‭ ‬أنك‭ ‬على‭ ‬حق،‭ ‬وإنما‭ ‬المطلوب‭ ‬منك‭ ‬‭ ‬ومرة‭ ‬أخرى‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬على‭ ‬حق‭ ‬أن‭ ‬تبرهن‭ ‬لهما‭ ‬أنهما‭ ‬على‭ ‬حق‭ ‬وأنك‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تحترم‭ ‬حقهما‭ ‬في‭ ‬إبداء‭ ‬الرأي‭.‬

أعدت‭ ‬قصاصة‭ ‬الورقة‭ ‬إلى‭ ‬صندوق‭ ‬جدي،‭ ‬وأنا‭ ‬أردد‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬‮«‬من‭ ‬أين‭ ‬تأتي‭ ‬بكل‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬يا‭ ‬جدي،‭ ‬رحمك‭ ‬الله»؟

 

zkhunji@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا