العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

الحروب الصليبية.. تعود من جديد

بقلم: د. زكريا الخنجي

الأحد ١٠ نوفمبر ٢٠٢٤ - 02:00

ربما‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬الصدفة‭ ‬حينما‭ ‬استخدم‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬آنذاك‭ ‬بوش‭ ‬الابن‭ ‬مصطلح‭ ‬الحروب‭ ‬الصليبية‭ ‬في‭ ‬خطابة‭ ‬يوم‭ ‬الرثاء‭ ‬الوطني،‭ ‬حين‭ ‬قال‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬الحملة‭ ‬الصليبية،‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬الإرهاب‭ ‬ستأخذ‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬إبان‭ ‬أحداث‭ ‬وتبعات‭ ‬11‭ ‬سبتمبر‭ ‬2001‭ ‬بعد‭ ‬انفجار‭ ‬الأبراج‭ ‬التجارية،‭ ‬ولقد‭ ‬حاولت‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬المختلفة‭ ‬أن‭ ‬تبرر‭ ‬هذه‭ ‬المقولة‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬انطلقت‭ ‬وجابت‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية‭ ‬وكانت‭ ‬واضحة‭ ‬المعالم‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تفسير‭.‬

وبالعودة‭ ‬إلى‭ ‬تاريخ‭ ‬الحروب‭ ‬الصليبية،‭ ‬نعتقد‭ ‬أن‭ ‬الحروب‭ ‬الصليبية‭ ‬لم‭ ‬تنطلق‭ ‬بدعوى‭ ‬وبمباركة‭ ‬البابا‭ (‬أوربان‭ ‬الثاني‭) ‬الفرنسي‭ ‬الجنسية‭ ‬عام‭ ‬1095‭ ‬ميلادية‭ ‬واستجابة‭ ‬لنداء‭ ‬الإمبراطور‭ ‬البيزنطي‭ ‬ألكسيوس‭ ‬كومنينوس‭ (‬فترة‭ ‬حكمه‭ ‬1081‭ ‬‭ ‬1118‭) ‬الذي‭ ‬ادعى‭ ‬أنه‭ ‬يحارب‭ ‬التوسع‭ (‬التركي‭ ‬السلجوقي‭)‬،‭ ‬وإنما‭ ‬نعتقد‭ ‬أنها‭ ‬بدأت‭ ‬منذ‭ ‬اللحظات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الفتح‭ ‬الإسلامي‭ ‬لبلاد‭ ‬الشام‭ ‬والعراق‭ ‬وتحطيم‭ ‬الدولة‭ ‬المجوسية‭ ‬الفارسية‭ ‬والدولة‭ ‬البيزنطية،‭ ‬حينها‭ ‬وجدت‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬القوى‭ ‬أنها‭ ‬خسرت‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الثروات‭ ‬والسلطة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتمتع‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬استعباد‭ ‬الشعوب،‭ ‬فتقابلت‭ ‬رغبات‭ ‬ونزوات‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬القوى‭ ‬في‭ ‬الظلام‭ ‬وبدأت‭ ‬تخطط‭ ‬وتحاول‭ ‬أن‭ ‬تستعيد‭ ‬نفوذها‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬البشر‭ ‬خلال‭ ‬فترات‭ ‬الحكم‭ ‬الإسلامي‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬المناطق،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬المحاولات‭ ‬باءت‭ ‬بالفشل،‭ ‬فتعاهدت‭ ‬قوى‭ ‬الظلام‭ ‬أن‭ ‬تستمر‭ ‬حتى‭ ‬جاء‭ ‬أوربان‭ ‬الثاني‭ ‬فصرخ‭ ‬صرخته‭ ‬التي‭ ‬غلفها‭ ‬بغلاف‭ ‬ديني،‭ ‬لتنطلق‭ ‬الهمجية‭ ‬من‭ ‬أوربا‭ ‬محاولة‭ ‬طمس‭ ‬النور‭ ‬والحضارة‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الإسلامي‭.‬

ومن‭ ‬المعروف‭ ‬كما‭ ‬تشير‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬أن‭ ‬الحروب‭ ‬الصليبية‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبارها‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الحملات‭ (‬1096‭ ‬‭ ‬1291‭)‬،‭ ‬بدايتها‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬تنصرت‭ ‬فيها‭ ‬أوروبا،‭ ‬وجاءت‭ ‬الدعوة‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬البابا‭ (‬أوربان‭ ‬الثاني‭) ‬في‭ ‬نوفمبر‭ ‬1095‭ ‬بعقد‭ ‬مجمع‭ ‬لرجال‭ ‬الدين،‭ ‬بررت‭ ‬تطبيق‭ (‬إرادة‭ ‬الرب‭) ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الحج‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭ ‬المقدسة‭. ‬

وبدأت‭ ‬الحملات‭ ‬الصليبية‭ (‬بحملة‭ ‬الفقراء‭)‬،‭ ‬ولكن‭ ‬سحقتهم‭ ‬قوات‭ ‬السلاجقة‭ ‬الأتراك‭ ‬في‭ ‬أكتوبر‭ ‬1096م،‭ ‬ثم‭ ‬الحرب‭ (‬الصليبية‭ ‬الأولى‭) ‬في‭ ‬أغسطس‭ ‬1096،‭ ‬وصلت‭ ‬القسطنطينية‭ ‬نهاية‭ ‬العام،‭ ‬وأسفرت‭ ‬عن‭ ‬احتلال‭ ‬القدس،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الحملة‭ ‬الثانية‭ ‬عام‭ ‬1147،‭ ‬وكان‭ ‬قادتها‭ ‬لويس‭ ‬السابع‭ ‬ملك‭ ‬فرنسا‭ ‬وكونراد‭ ‬الثالث‭ ‬هوهنشتاوفن‭ ‬إمبراطور‭ ‬الجرمان‭ (‬ألمانيا‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬أول‭ ‬حملة‭ ‬يشترك‭ ‬فيها‭ ‬الملوك،‭ ‬ومنيت‭ ‬بهزيمة‭ ‬ساحقة‭.‬

وفي‭ ‬يوليو‭ ‬1187‭ ‬وقعت‭ ‬معركة‭ ‬حطين‭ ‬التاريخية،‭ ‬والتي‭ ‬انتصر‭ ‬فيها‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬الأيوبي‭ ‬سلطان‭ ‬مصر،‭ ‬فحرر‭ ‬القدس،‭ ‬مما‭ ‬دفع‭ ‬البابا‭ (‬جريجوريوس‭ ‬الثامن‭) ‬إلى‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬حملة‭ ‬صليبية‭ ‬ثالثة،‭ ‬وقادها‭ ‬ملك‭ ‬فرنسا‭ ‬فيليب‭ ‬أ‭(‬وجست‭ ‬الثاني‭)‬،‭ ‬وملك‭ ‬إنجلترا‭ (‬ريتشارد‭ ‬قلب‭ ‬الأسد‭)‬،‭ ‬وملك‭ ‬الجرمان‭ (‬فريدريك‭ ‬الأول‭)‬،‭ ‬لكن‭ ‬غرق‭ ‬في‭ ‬النهر،‭ ‬فتشردت‭ ‬قواته،‭ ‬وقام‭ ‬الصليبيون‭ ‬بحصار‭ ‬عكا،‭ ‬وجرت‭ ‬مذبحة‭ ‬عظيمة‭. ‬

والحملة‭ ‬الرابعة،‭ ‬دعا‭ ‬إليها‭ ‬البابا‭ (‬اينوشنتيوس‭ ‬الثالث‭) ‬في‭ ‬عام‭ ‬1202،‭ ‬وخطط‭ ‬الصليبيون‭ ‬لدفع‭ ‬القوات‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬لضرب‭ ‬القوة‭ ‬الإسلامية‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬والحملة‭ ‬الخامسة،‭ ‬حينما‭ ‬سعى‭ (‬اينوشنتيوس‭) ‬أيضًا‭ ‬لحملة‭ ‬صليبية‭ ‬عام‭ ‬1213،‭ ‬وتوجهوا‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬دمياط‭ ‬واستولوا‭ ‬عليها،‭ ‬واستكمل‭ ‬الهجوم‭ ‬نحو‭ ‬المنصورة،‭ ‬وحينها‭ ‬بدأ‭ ‬فيضان‭ ‬النيل،‭ ‬وفتح‭ ‬المصريون‭ ‬السد،‭ ‬وحاصرتهم‭ ‬قوات‭ ‬المسلمين،‭ ‬وغرق‭ ‬المئات،‭ ‬وأسر‭ ‬لويس‭ ‬التاسع‭ ‬فطلب‭ ‬الصليبيون‭ ‬الصلح،‭ ‬ومنيت‭ ‬الحملة‭ ‬بالفشل‭.‬

والحملة‭ ‬السادسة،‭ ‬قادها‭ ‬الإمبراطور‭ ‬فريدريك‭ ‬الثاني‭ ‬الألماني‭ ‬ولم‭ ‬تحظ‭ ‬بمباركة‭ ‬البابوية،‭ ‬وقامت‭ ‬الحملة‭ ‬السابعة،‭ ‬بعد‭ ‬الهزيمة‭ ‬التي‭ ‬لحقت‭ ‬بفصائل‭ ‬الصليبيين‭ ‬وخسارتهم‭ ‬للقدس‭. ‬

كانت‭ ‬الحملات‭ ‬كلها‭ ‬همجية‭ ‬ووحشية‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الحملات‭ ‬نموذجًا‭ ‬للإرهاب‭ ‬المنظم‭ ‬المغلف‭ ‬بغلاف‭ ‬ديني،‭ ‬ويعلق‭ ‬البروفيسور‭ (‬بارت‭ ‬إيرمان‭) ‬أستاذ‭ ‬الدراسات‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬نورث‭ ‬كارولينا،‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬كانت‭ ‬الحروب‭ ‬الصليبية‭ ‬دليلاً‭ ‬عمليًا‭ ‬على‭ ‬همجية‭ ‬ووحشية‭ ‬ما‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬شعوب‭ ‬وممالك،‭ ‬وكنائس‭ ‬باسم‭ ‬العقيدة‭ ‬والدين،‭ ‬ضد‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬في‭ ‬المشرق‭ ‬العربي،‭ ‬وربما‭ ‬كانت‭ ‬أفظع‭ ‬أعمال‭ ‬الصليبيين‭ ‬أكلهم‭ ‬لحوم‭ ‬أعدائهم،‭ ‬بعدما‭ ‬طهوها‭ ‬أو‭ ‬شيّها،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬مجزرة‭ (‬معرة‭ ‬النعمان‭)‬،‭ ‬إلا‭ ‬أحدها‮»‬‭. ‬

وروى‭ ‬ابن‭ ‬الأثير‭ ‬عن‭ ‬دخول‭ ‬الصليبيين‭ ‬للقدس‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬قتل‭ ‬الفرنج‭ ‬بالمسجد‭ ‬الأقصى‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬سبعين‭ ‬ألفًا‭. ‬وقام‭ ‬ريتشارد‭ ‬قلب‭ ‬الأسد‭ ‬في‭ ‬الحملة‭ ‬الصليبية‭ ‬الثالثة،‭ ‬بذبح‭ ‬2700‭ ‬أسير‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬عكا‮»‬،‭ ‬وذكر‭ (‬جوستاف‭ ‬لوبون‭) ‬في‭ ‬كتابه‭ (‬الحضارة‭ ‬العربية‭) ‬نقلاً‭ ‬عن‭ ‬رهبان‭ ‬ومؤرخين‭ ‬قالوا‭: ‬‮«‬كان‭ ‬قومنا‭ ‬يجوبون‭ ‬الشوارع‭ ‬والبيوت،‭ ‬يذبحون‭ ‬الأولاد‭ ‬والشباب،‭ ‬ويقطعونهم‭ ‬إربًا،‭ ‬ويبقرون‭ ‬بطون‭ ‬الموتى،‭ ‬والدماء‭ ‬تسيل‭ ‬كالأنهار‭ ‬في‭ ‬طرق‭ ‬المدينة‭ ‬المغطاة‭ ‬بالجثث،‭ ‬لقد‭ ‬أفرط‭ ‬قومنا‭ ‬في‭ ‬سفك‭ ‬الدماء،‭ ‬وكانت‭ ‬جثث‭ ‬القتلى‭ ‬تعوم‭ ‬في‭ ‬الساحة‭. ‬وفي‭ ‬المعرة‭ ‬قتلوا‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬الجوامع‭ ‬والسراديب،‭ ‬فأهلكوا‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬مئة‭ ‬ألف‭ ‬إنسان‭.‬

واليوم‭ ‬تعود‭ ‬الحروب‭ ‬الصليبية‭ ‬تحت‭ ‬مسمى‭ ‬جديد‭ ‬يتوافق‭ ‬مع‭ ‬القرن‭ ‬الذي‭ ‬نعيشه،‭ ‬وهو‭ (‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬الجديد‭)‬،‭ ‬والذي‭ ‬بدأ‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬وأصبح‭ ‬العالم‭ ‬يخضع‭ ‬لقطب‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬التحكم،‭ ‬وربما‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬ظاهرًا‭ ‬حينما‭ ‬نتأمل‭ ‬السياسة‭ ‬الأمريكية‭ ‬تجاه‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬والتي‭ ‬يمكن‭ ‬تلخيصها‭ ‬في‭ ‬نقطتين،‭ ‬وهما‭:‬

*‭ ‬حماية‭ ‬المصالح‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬وبالتحديد‭ ‬المصالح‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والنفطية،

*‭ ‬تقديم‭ ‬كل‭ ‬أنواع‭ ‬الدعم‭ ‬لدولة‭ ‬الاحتلال‭.‬

وقد‭ ‬تكون‭ ‬النقطة‭ ‬الأولى‭ ‬واضحة‭ ‬عند‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المعمورة،‭ ‬ولكن‭ ‬موضوع‭ ‬الدعم‭ ‬الكامل‭ ‬واللا‭ ‬محدود،‭ ‬أو‭ ‬الكيل‭ ‬بمكيالين‭ ‬لما‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬دول‭ ‬الغرب‭ ‬في‭ ‬الحروب‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬ودولة‭ ‬الاحتلال‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬غير‭ ‬واضح‭ ‬للكثيرين‭. ‬لذلك‭ ‬حتى‭ ‬نفهم‭ ‬ذلك‭ ‬أعتقد‭ ‬أنه‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نعود‭ ‬إلى‭ ‬جذور‭ ‬تلك‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬نوعًا‭ ‬ما‭ ‬مخفية‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬بدأت‭ ‬واضحة‭ ‬للعيان‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬الثمانينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬ليبرز‭ ‬لنا‭ ‬مصطلح‭ (‬الصهيونية‭ ‬المسيحية‭ ‬أو‭ ‬المسيحية‭ ‬الإنجيلية‭)‬،‭ ‬فما‭ ‬هذه‭ ‬الحركة؟‭ ‬وكيف‭ ‬أنشئت؟‭ ‬وما‭ ‬أهدافها؟

تشير‭ ‬المراجع‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الصهيونية‭ ‬المسيحية‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬في‭ ‬إنجلترا،‭ ‬وتقول‭ ‬الدراسات‭ ‬إنه‭ ‬تم‭ ‬ربطها‭ ‬بالسياسة‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬بتصور‭ ‬قيام‭ ‬دولة‭ ‬يهودية‭ ‬حسب‭ ‬زعمها‭ ‬لنبوءة‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس،‭ ‬ومع‭ ‬بدء‭ ‬الهجرات‭ ‬الواسعة‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أخذت‭ ‬الحركة‭ ‬أبعادًا‭ ‬سياسية‭ ‬واضحة‭ ‬وثابتة،‭ ‬كما‭ ‬أخذت‭ ‬بعدًا‭ ‬دوليًا‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬الدعم‭ ‬الكامل‭ ‬للشعب‭ ‬اليهودي‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬دراسات‭ ‬أخرى‭ ‬تعيد‭ ‬جذور‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬بتيار‭ ‬ديني‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬الأول‭ ‬للمسيحية،‭ ‬ويسمى‭ ‬بتيار‭ (‬الألفية‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬معتقد‭ ‬ديني‭ ‬نشأ‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬المسيحيين‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬يهودي،‭ ‬ويعود‭ ‬إلى‭ ‬استمرارهم‭ ‬في‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بأن‭ ‬المسيح‭ ‬سيعود‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬محاطًا‭ ‬بالقديسين‭ ‬ليملك‭ ‬الأرض‭ ‬ألف‭ ‬سنة‭ ‬ولذلك‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ (‬بالألفية‭).‬

ويُعد‭ ‬تيودور‭ ‬هرتزل‭ ‬مؤسس‭ ‬الصهيونية‭ ‬الحديثة‭ ‬هو‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬استخدم‭ ‬مصطلح‭ (‬الصهيونية‭ ‬المسيحية‭)‬،‭ ‬وعرفه‭ ‬بأنه‭ (‬المسيحي‭ ‬الذي‭ ‬يدعم‭ ‬الصهيونية‭)‬،‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬تطور‭ ‬المصطلح‭ ‬ليأخذ‭ ‬بُعدًا‭ ‬دينيًا،‭ ‬وأصبح‭ ‬المسيحي‭ ‬المتصهين‭ ‬هو‭ (‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يساعد‭ ‬الله‭ ‬لتحقيق‭ ‬نبوءته‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دعم‭ ‬الوجود‭ ‬العضوي‭ ‬لإسرائيل،‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬مساعدته‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬برنامجه‭ ‬الإنجيلي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬جسد‭ ‬المسيح‭).‬

أما‭ ‬مصطلح‭ (‬إنجيلي‭) ‬هي‭ ‬الترجمة‭ ‬العربية‭ ‬الشائعة‭ ‬لمصطلح‭ (‬إيفانجيليكل‭)‬،‭ ‬ويُقصد‭ ‬بها‭ ‬في‮ ‬الولايات‭ ‬المتحدة كل‭ ‬الطوائف‭ ‬المسيحية‭ ‬البروتستانية‭ ‬التي‭ ‬تميزت‭ ‬عن‭ ‬البروتستانت‭ ‬التقليديين‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬المعتقدات،‮ ‬أبرزها‭ ‬إيمانها‭ ‬بمفهوم‭ (‬الولادة‭ ‬الثانية‭) ‬أو‭ (‬ولادة‭ ‬أو‭ ‬عودة‭ ‬الروح‭)‬،‭ ‬ويرجع‭ ‬تاريخهم‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬أمريكا‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المستعمرات،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬الطائفة‭ ‬مرت‭ ‬بتحولات‭ ‬عديدة‭ ‬حتى‭ ‬صارت‭ ‬مشهورة‭ ‬في‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬بنشاطها‭ ‬السياسي‭ ‬وانخراط‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬أتباعها‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ (‬اليمين‭ ‬المسيحي‭)‬،‭ ‬وتقاطعها‭ ‬فكريًا‭ ‬وسياسيًا‭ ‬مع‭ ‬دولة‭ ‬الاحتلال‭ ‬والحركة‭ ‬الصهيونية‭. ‬

يقول‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬عارف‭ ‬زكاء‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ (‬الدين‭ ‬والسياسة‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭): ‬وسواء‭ ‬كنا‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬الصهيونية‭ ‬المسيحية‭ ‬أو‭ ‬المسيحية‭ ‬الإنجيلية‭ ‬فإنهم‭ ‬يؤمنون‭ ‬أن‭ ‬المسيح‭ ‬سينزل‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭ ‬لينشئ‭ ‬مملكة‭ ‬الله‭ ‬التي‭ ‬ستستمر‭ ‬ألف‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬السعادة،‭ ‬كما‭ ‬يؤمنون‭ ‬أن‭ ‬إسرائيل‭ ‬هي‭ ‬العامل‭ ‬المسرع‭ ‬لأحداث‭ ‬نهاية‭ ‬الزمان،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإن‭ ‬دعمها‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬ثوابت‭ ‬السياسة‭ ‬الأمريكية‭.‬

في‭ ‬كتاب‭ (‬الصهيونية‭ ‬المسيحية‭) ‬للمؤلف‭ ‬أحمد‭ ‬حسن‭ ‬سيد‭ ‬غنيم‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬قول‭ (‬مايك‭ ‬إيفتر‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬يهودي‭ ‬تنصر‭ ‬لكي‭ ‬يدعم‭ ‬قضايا‭ ‬اليهود،‭ ‬وتحول‭ ‬إلى‭ ‬قس،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬صديق‭ ‬لجورج‭ ‬بوش‭ ‬الابن‭ ‬وذو‭ ‬مكانة‭ ‬مرموقة‭ ‬في‭ ‬الحزب‭ ‬الجمهوري،‭ ‬إذ‭ ‬قال‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الله‭ ‬يريد‭ ‬من‭ ‬الأمريكيين‭ ‬نقل‭ ‬سفارتهم‭ ‬من‭ ‬تل‭ ‬أبيب‭ ‬إلى‭ ‬القدس،‭ ‬لأن‭ ‬القدس‭ ‬هي‭ ‬عاصمة‭ ‬داوود‭ ... ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يعترفوا‭ ‬بالقدس‭ ‬ملكية‭ ‬يهودية‭ ‬فإننا‭ ‬سندفع‭ ‬ثمن‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬أبنائنا‭ ‬وآبائنا،‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬سيبارك‭ ‬الذين‭ ‬يباركون‭ ‬إسرائيل‭ ‬وسيلعن‭ ‬لاعنيها‮»‬‭.‬

ويشهد‭ ‬الإعلام‭ ‬الأمريكي‭ ‬اليوم‭ ‬‭ ‬كما‭ ‬تشير‭ ‬المراجع‭ ‬حضورًا‭ ‬متزايدًا‭ ‬لهذه‭ ‬التيار،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬100‭ ‬محطة‭ ‬تلفزيونية،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬محطة‭ ‬إذاعية،‭ ‬ويعمل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التبشير‭ ‬به‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬80‭ ‬ألف‭ ‬قسيس‭. ‬ليس‭ ‬ذلك‭ ‬فحسب‭ ‬بل‭ ‬وتترجم‭ ‬حركة‭ ‬المسيحية‭ ‬الصهيونية‭ ‬أفكارها‭ ‬إلى‭ ‬سياسات‭ ‬داعمة‭ ‬لإسرائيل،‭ ‬وتطلب‭ ‬ذلك‭ ‬خلق‭ ‬منظمات‭ ‬ومؤسسات‭ ‬تعمل‭ ‬بجد‭ ‬نحو‭ ‬تحقيق‭ ‬هذا‭ ‬الهدف‭. ‬لذلك،‭ ‬قامت‭ ‬حركة‭ ‬المسيحية‭ ‬الصهيونية‭ ‬بإنشاء‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬مثل‭ (‬اللجنة‭ ‬المسيحية‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬للعلاقات‭ ‬العامة‭)‬،‭ ‬و‭(‬مؤسسة‭ ‬الائتلاف‭ ‬الوحدوي‭ ‬الوطني‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إسرائيل‭)‬،‭ ‬ومن‭ ‬أهداف‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬دعم‭ ‬دولة‭ ‬الاحتلال‭ ‬لدى‭ ‬المؤسسات‭ ‬الأمريكية‭ ‬المختلفة،‭ ‬السياسي‭ ‬منها‭ ‬وغير‭ ‬السياسي‭. ‬وخلال‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬أصبحت‭ ‬منظمة‭ (‬مسيحيون‭ ‬متحدون‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إسرائيل‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬يرأسها‭ ‬القس‭ (‬جو‭ ‬هاجي‭)‬،‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬ذات‭ ‬النفوذ‭ ‬الطاغي‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬الأمريكية‭.‬

وثمة‭ ‬منظمة‭ ‬إنجيلية‭ ‬أخرى‭ ‬هي‭ (‬السفارة‭ ‬المسيحية‭ ‬العالمية‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬مسيحيين‭ ‬متضامنين‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭. ‬تقوم‭ ‬هذه‭ ‬المنظمة‭ ‬بعقد‭ ‬مؤتمر‭ ‬سنوي‭ ‬في‭ ‬القدس‭ ‬منذ‭ ‬حوالي‭ ‬40‭ ‬عامًا‭ ‬يشارك‭ ‬فيه‭ ‬آلاف‭ ‬من‭ ‬الإنجيليين‭ ‬من‭ ‬شتى‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬ويعَد‭ ‬الحدث‭ ‬السياحي‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬إسرائيل‭ ‬سنويًا‭. ‬وتدعي‭ ‬المنظمة،‭ ‬التي‭ ‬تنشط‭ ‬فيما‭ ‬تسمّيه‭ (‬الدبلوماسية‭ ‬الإنجيلية‭)‬،‭ ‬أنها‭ ‬تمتلك‭ ‬فروعًا‭ ‬في‭ ‬90‭ ‬دولة‭ ‬وأنها‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬170‭ ‬دولة‭.‬

وهكذا‭ ‬تعود‭ ‬الحروب‭ ‬الصليبية‭ ‬الصهيونية‭ ‬اليوم،‭ ‬والتي‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬مغلفة‭ ‬بغلاف‭ ‬ديني،‭ ‬لعلنا‭ ‬نفهم‭.‬

وما‭ ‬زال‭ ‬للحديث‭ ‬بقية‭.‬

Zkhunji@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا