العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

الملحمة النضالية للجيل الفلسطيني «الجديد»

بقلم: د. حسن نافعة

الجمعة ١٠ مارس ٢٠٢٣ - 02:00

ربما‭ ‬يكون‭ ‬ياسر‭ ‬عرفات‭ ‬قد‭ ‬تصوّر،‭ ‬حين‭ ‬قرّر‭ ‬عام‭ ‬1993‭ ‬التوقيع‭ ‬على‭ ‬اتفاقية‭ ‬أوسلو‭ ‬باسم‭ ‬منظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬خطوةٍ‭ ‬كهذه‭ ‬أن‭ ‬تمكّنه‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬قدمه‭ ‬داخل‭ ‬أرضه‭ ‬المغتصبة‭. ‬ومن‭ ‬هناك‭ ‬سيكون‭ ‬في‭ ‬وسعه‭ ‬مواصلة‭ ‬رحلة‭ ‬نضاله‭ ‬الشاق،‭ ‬ولكن‭ ‬بالوسائل‭ ‬السلمية‭ ‬وحدها‭ ‬هذه‭ ‬المرّة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يتمكّن‭ ‬من‭ ‬بناء‭ ‬الدولة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المستقلة‭ ‬التي‭ ‬يحلم‭ ‬بها،‭ ‬ولو‭ ‬على‭ ‬مساحة‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬22%‭ ‬من‭ ‬مساحة‭ ‬فلسطين‭ ‬التاريخية،‭ ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬مرحلة‭ ‬انتقالية‭ ‬مدّتها‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭. ‬ورغم‭ ‬ما‭ ‬انطوى‭ ‬عليه‭ ‬هذا‭ ‬التصوّر‭ ‬من‭ ‬خطأ‭ ‬جسيم‭ ‬في‭ ‬الحسابات‭ ‬الاستراتيجية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬بقي‭ ‬أمينا‭ ‬وصادقا‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭ ‬ومع‭ ‬تاريخه‭ ‬النضالي‭ ‬الطويل،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬ظل‭ ‬حريصا‭ ‬طوال‭ ‬حياته‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬التوقيع‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬تسويةٍ‭ ‬نهائيةٍ‭ ‬لا‭ ‬تتضمن‭ ‬انسحابا‭ ‬إسرائيليا‭ ‬كاملا‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الأراضي‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المحتلة‭ ‬عام‭ ‬1967،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬القدس‭ ‬الشرقية،‭ ‬بالتوازي‭ ‬مع‭ ‬حلّ‭ ‬مشكلة‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬استنادا‭ ‬إلى‭ ‬قرار‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬رقم‭ ‬149‭ ‬لسنة‭ ‬1948،‭ ‬والذي‭ ‬يقضي‭ ‬بعودة‭ ‬هؤلاء‭ ‬اللاجئين‭ ‬وتعويضهم‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭.‬

وعندما‭ ‬اكتشف‭ ‬عرفات،‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬مشاركته‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬كامب‭ ‬ديفيد‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬دعا‭ ‬إليه‭ ‬ورعاه‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬بيل‭ ‬كلينتون‭ ‬عام‭ ‬2000،‭ ‬وحضره‭ ‬إيهود‭ ‬باراك،‭ ‬أن‭ ‬أقصى‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬لإسرائيل‭ ‬أن‭ ‬تقدّمه‭ ‬من‭ ‬تنازلات‭ ‬للتوصل‭ ‬إلى‭ ‬تسوية،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬أكثر‭ ‬حكوماتها‭ ‬يسارية،‭ ‬سوف‭ ‬يكون‭ ‬أقلّ‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬حد‭ ‬أدنى‭ ‬مقبول‭ ‬فلسطينيا،‭ ‬ولن‭ ‬يزيد‭ ‬أبدا‭ ‬على‭ ‬اقتراح‭ ‬إقامة‭ ‬شبه‭ ‬دولة‭ ‬داخل‭ ‬حدود‭ ‬تقل‭ ‬عن‭ ‬حدود‭ ‬1967،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬القدس‭ ‬الشرقية‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬عودة‭ ‬اللاجئين‭ ‬إلى‭ ‬ديارهم،‭ ‬لم‭ ‬يتردّد‭ ‬قط‭ ‬في‭ ‬رفض‭ ‬الموافقة‭ ‬على‭ ‬تسويةٍ‭ ‬بهذه‭ ‬الشروط،‭ ‬بل‭ ‬وقبل‭ ‬مختارا‭ ‬أن‭ ‬يدفع‭ ‬ثمن‭ ‬رفضه‭ ‬غاليا،‭ ‬بالحصار‭ ‬أولا‭ ‬ثم‭ ‬بالاغتيال‭.‬

وقتها،‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬أن‭ ‬تُقدم‭ ‬فورا‭ ‬على‭ ‬وقفة‭ ‬مع‭ ‬النفس،‭ ‬تعيد‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬ترتيب‭ ‬أوراقها‭ ‬المبعثرة،‭ ‬وتوحيد‭ ‬صفوفها‭ ‬حول‭ ‬رؤية‭ ‬جديدة‭ ‬موحدة،‭ ‬تستكمل‭ ‬بها‭ ‬مسيرة‭ ‬نضالها‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬ينقطع،‭ ‬مع‭ ‬الأخذ‭ ‬في‭ ‬الاعتبار‭ ‬كل‭ ‬المستجدات‭ ‬التي‭ ‬طرأت‭ ‬على‭ ‬الأوضاع‭ ‬المحلية‭ ‬والإقليمية‭ ‬والدولية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬للأسف‭. ‬ثم‭ ‬لاحت‭ ‬فرصة‭ ‬جديدة‭ ‬لمثل‭ ‬هذه‭ ‬الوقفة‭ ‬مع‭ ‬النفس‭ ‬عقب‭ ‬الانتخابات‭ ‬الفلسطينية‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬عام‭ ‬2006‭ ‬وشاركت‭ ‬فيها‭ ‬حركة‭ ‬حماس،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬رفاق‭ ‬عرفات‭ ‬في‭ ‬سلطة‭ ‬رام‭ ‬الله‭ ‬كان‭ ‬لهم‭ ‬رأي‭ ‬آخر‭ ‬طغت‭ ‬فيه‭ ‬الحسابات‭ ‬الفصائلية‭ ‬على‭ ‬الحسابات‭ ‬الوطنية،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬انقسام‭ ‬عميق‭ ‬أدخل‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬التيه‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تعاني‭ ‬منها‭.‬

حين‭ ‬تكرّس‭ ‬الانقسام‭ ‬الفلسطيني‭ ‬بانفصال‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬عن‭ ‬قطاع‭ ‬غزة،‭ ‬وخضوع‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬لحكومة‭ ‬مختلفة‭ ‬سياسيا‭ ‬وأيديولوجيا،‭ ‬ترفع‭ ‬إحداهما‭ ‬شعار‭ ‬التسوية‭ ‬وترفع‭ ‬الأخرى‭ ‬شعار‭ ‬المقاومة‭ ‬المسلحة،‭ ‬سنحت‭ ‬فرصة‭ ‬ذهبية‭ ‬أمام‭ ‬إسرائيل،‭ ‬وبدعم‭ ‬كامل‭ ‬وغير‭ ‬مشروط‭ ‬من‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬للشروع‭ ‬في‭ ‬بلورة‭ (‬وتنفيذ‭) ‬خطة‭ ‬استهدفت‭ ‬أمرين‭ ‬رئيسيين‭. ‬الأول‭: ‬تصفية‭ ‬فصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬المسلحة‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬غزة،‭ ‬والعمل،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬على‭ ‬إبقاء‭ ‬القطاع‭ ‬بأكمله‭ ‬تحت‭ ‬الحصار‭ ‬والتجويع‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تنضُج‭ ‬الأوضاع‭ ‬لإعادته‭ ‬تحت‭ ‬هيمنة‭ ‬سلطة‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬بعد‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬تدمير‭ ‬فصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬المسلحة‭ ‬الموجودة‭ ‬هناك‭ ‬واستئصالها‭. ‬

الثاني‭: ‬العمل،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬على‭ ‬اجتثاث‭ ‬الفكر‭ ‬المقاوم‭ ‬من‭ ‬عقول‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬وقلوبهم،‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬التي‭ ‬تتولى‭ ‬السلطة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬مسؤولية‭ ‬إدارة‭ ‬المناطق‭ ‬المحرّرة‭ ‬منها‭. ‬وفي‭ ‬سياق‭ ‬هذه‭ ‬الخطة،‭ ‬جرى‭ ‬استدعاء‭ ‬الجنرال‭ ‬الأمريكي‭ ‬كيث‭ ‬دايتون،‭ ‬ليتولى‭ ‬بنفسه‭ ‬عملية‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ (‬وهيكلة‭) ‬أجهزة‭ ‬الأمن‭ ‬الفلسطينية‭ ‬التابعة‭ ‬لسلطة‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬وتدريب‭ ‬كوادرها‭ ‬على‭ ‬رصد‭ ‬العناصر‭ ‬المنخرطة‭ ‬في‭ ‬المقاومة‭ ‬المسلحة‭ ‬وتعقّبها،‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬إجهاض‭ ‬أي‭ ‬محاولاتٍ‭ ‬تستهدف‭ ‬زعزعة‭ ‬الأمن‭ ‬الإسرائيلي‭. ‬وقد‭ ‬اعتقد‭ ‬هذا‭ ‬الجنرال‭ ‬أنه‭ ‬نجح‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬السنوات‭ ‬الطويلة‭ ‬المنصرمة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬‮«‬إنسان‭ ‬فلسطيني‭ ‬جديد‮»‬،‭ ‬أراد‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يتربّى‭ ‬على‭ ‬كراهية‭ ‬حركتي‭ ‬حماس‭ ‬والجهاد‭ ‬الإسلامي‭ ‬وشهداء‭ ‬الأقصى،‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬يحمل‭ ‬السلاح‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬إسرائيل،‭ ‬والتعامل‭ ‬معهم‭ ‬باعتبارهم‭ ‬أعداء‭ ‬للشعب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬والتعود،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬باعتبارها‭ ‬حقيقة‭ ‬واقعة‭ ‬ينبغي‭ ‬التسليم‭ ‬بها‭ ‬والتعايش‭ ‬معها،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضا‭ ‬باعتبارها‭ ‬حليفا‭ ‬محتملا‭ ‬ونموذجا‭ ‬يُحتذى‭ ‬به‭ ‬كواحة‭ ‬للديمقراطية‭ ‬في‭ ‬منطقةٍ‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬سوى‭ ‬الاستبداد،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الرياح‭ ‬هبّت‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬تشتهي‭ ‬سفن‭ ‬إسرائيل‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وأيضا‭ ‬سفن‭ ‬المتعاونين‭ ‬معهما‭. ‬ولم‭ ‬يدرك‭ ‬دايتون‭ ‬أن‭ ‬الجيل‭ ‬الفلسطيني‭ ‬الذي‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬‮«‬أوسلو‮»‬‭ ‬عاش‭ ‬وترعرع،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬ثلاث‭ ‬ظواهر،‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أكبر‭ ‬الأثر‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬وعيه‭ ‬السياسي‭ ‬والفكري‭:‬

الأولى‭: ‬تتعلق‭ ‬بتوجهات‭ ‬المجتمع‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬وبتصرّفات‭ ‬الحكومات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬المتعاقبة‭ ‬داخل‭ ‬الأراضي‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المحتلة،‭ ‬فقد‭ ‬تفتح‭ ‬وعي‭ ‬‮«‬جيل‭ ‬أوسلو‮»‬‭ ‬على‭ ‬مجتمع‭ ‬إسرائيلي‭ ‬يتّجه‭ ‬وعيه‭ ‬الجمعي‭ ‬نحو‭ ‬تفضيل‭ ‬الأحزاب‭ ‬والتيارات‭ ‬الأكثر‭ ‬تطرّفا،‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬السياسي‭ ‬والفكري،‭ ‬وكذلك‭ ‬الأحزاب‭ ‬والتيارات‭ ‬الأكثر‭ ‬تعصّبا‭ ‬وعنصرية،‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬الديني‭ ‬والإنساني‭. ‬كما‭ ‬شهد‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬بنفسه‭ ‬كيف‭ ‬تعاملت‭ ‬الحكومات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬المتعاقبة‭ ‬باستهانة‭ ‬واستهتار‭ ‬مع‭ ‬السلطة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬رئيسها‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬إذنٍ‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬بأي‭ ‬تحرّكات‭ ‬داخل‭ ‬فلسطين‭ ‬أو‭ ‬خارجها،‭ ‬وكيف‭ ‬تعمّدت‭ ‬هذه‭ ‬الحكومات‭ ‬جميعها‭ ‬خرق‭ ‬الالتزامات‭ ‬الواقعة‭ ‬على‭ ‬عاتقها‭ ‬بموجب‭ ‬القوانين‭ ‬والأعراف‭ ‬الدولية،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬بموجب‭ ‬اتفاقية‭ ‬أوسلو‭ ‬نفسها،‭ ‬وذلك‭ ‬بالتوسّع‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬المستوطنات،‭ ‬وفي‭ ‬تهويد‭ ‬القدس،‭ ‬وفي‭ ‬مصادرة‭ ‬الأراضي،‭ ‬وفي‭ ‬هدم‭ ‬البيوت،‭ ‬وفي‭ ‬سرقة‭ ‬المياه،‭ ‬وفي‭ ‬ترحيل‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬بل‭ ‬وقتل‭ ‬الشيوخ‭ ‬والنساء‭ ‬والأطفال‭... ‬إلخ‭. ‬وولّدت‭ ‬هذه‭ ‬التصرّفات‭ ‬لدى‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬قناعة‭ ‬تامة‭ ‬باستحالة‭ ‬التعايش‭ ‬مع‭ ‬مجتمع‭ ‬إسرائيلي‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬نظام‭ ‬عنصري‭ ‬يمارس‭ ‬الأبارتهايد،‭ ‬ويرفض‭ ‬إقامة‭ ‬دولة‭ ‬فلسطينية‭ ‬مستقلة‭ ‬تعيش‭ ‬بسلام‭ ‬إلى‭ ‬جواره،‭ ‬ومع‭ ‬حكوماتٍ‭ ‬إسرائيلية‭ ‬غير‭ ‬معنية‭ ‬أو‭ ‬مهتمة‭ ‬بالتوصل‭ ‬إلى‭ ‬تسوية‭ ‬بالوسائل‭ ‬السلمية‭. ‬بل‭ ‬بات‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬يشعر‭ ‬بتهديد‭ ‬وجودي‭ ‬حقيقي،‭ ‬وبأنه‭ ‬معرّض‭ ‬للاقتلاع‭ ‬والترحيل‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬وقت،‭ ‬خصوصا‭ ‬بعد‭ ‬تشكيل‭ ‬حكومة‭ ‬نتنياهو‭ ‬الحالية‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬بن‭ ‬غفير‭ ‬وسموتريتش‭ ‬وأمثالهما‭. ‬ومن‭ ‬الطبيعي،‭ ‬في‭ ‬سياقٍ‭ ‬كهذا،‭ ‬أن‭ ‬يقتنع‭ ‬الشباب‭ ‬الذي‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬‮«‬أوسلو‮»‬‭ ‬بأن‭ ‬الكفاح‭ ‬المسلح‭ ‬هو‭ ‬السبيل‭ ‬الوحيد‭ ‬لتمكين‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬من‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬حقوقه،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬حدّها‭ ‬الأدنى،‭ ‬وخصوصا‭ ‬على‭ ‬حقه‭ ‬في‭ ‬تقرير‭ ‬مصيره‭.‬

الثانية‭: ‬تتعلق‭ ‬بالانقسامات‭ ‬القائمة‭ ‬بين‭ ‬الفصائل‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المختلفة،‭ ‬خصوصا‭ ‬بين‭ ‬حركتي‭ ‬فتح‭ ‬وحماس،‭ ‬فالجيل‭ ‬الفلسطيني‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬‮«‬أوسلو‮»‬‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬الانقسامات‭ ‬المتصاعدة‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬الفصائل،‭ ‬ورأى‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الانقسامات‭ ‬راحت‭ ‬تزداد‭ ‬عمقا‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت،‭ ‬وباتت‭ ‬عصيّة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬المحاولات‭ ‬الرامية‭ ‬إلى‭ ‬جسر‭ ‬الهوّة‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭. ‬ولأنه‭ ‬جيلٌ‭ ‬أدرك،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬كيف‭ ‬أنها‭ ‬باتت‭ ‬تشكّل‭ ‬خطرا‭ ‬كبيرا،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬وحدة‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬وفاعليتها،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬مصير‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬ككل‭ ‬ومستقبله،‭ ‬فمن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يتخذ‭ ‬موقفا‭ ‬رافضا‭ ‬تماما‭ ‬لهذا‭ ‬الانقسام،‭ ‬ومطالبا‭ ‬بإنهائه‭ ‬على‭ ‬الفور،‭ ‬ومحمّلا‭ ‬كل‭ ‬الفصائل‭ ‬المسؤولية‭ ‬عن‭ ‬استمراره‭. ‬صحيحٌ‭ ‬أنه‭ ‬جيل‭ ‬يقدّر‭ ‬ويثمن‭ ‬عاليا‭ ‬ما‭ ‬قدمته‭ ‬كل‭ ‬فصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المسلحة‭ ‬من‭ ‬تضحيات‭ ‬جسام،‭ ‬لكنه‭ ‬يمقت‭ ‬التفكير‭ ‬الفصائلي‭ ‬للأجنحة‭ ‬السياسية‭ ‬لهذه‭ ‬الفصائل‭ ‬وتغليبها‭ ‬المصالح‭ ‬الفصائلية‭ ‬على‭ ‬مصلحة‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية‭. ‬لذا‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬تربّى‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬‮«‬أوسلو‮»‬‭ ‬ينبذ‭ ‬التفكير‭ ‬الفصائلي،‭ ‬ويدرك‭ ‬أن‭ ‬المحتل‭ ‬ولا‭ ‬يفرّق‭ ‬بين‭ ‬مقاوم‭ ‬وآخر،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يتعيّن‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬توجيه‭ ‬كل‭ ‬البنادق‭ ‬إلى‭ ‬صدر‭ ‬المحتل‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬وفقط‭.‬

الثالثة‭: ‬تتعلق‭ ‬بالأوضاع‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬النظام‭ ‬الإقليمي‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الراهنة،‭ ‬فلا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬جيل‭ ‬‮«‬أوسلو‮»‬‭ ‬بات‭ ‬يدرك‭ ‬بوضوح‭ ‬أن‭ ‬تحرير‭ ‬فلسطين‭ ‬لن‭ ‬يتم‭ ‬إلا‭ ‬بالاعتماد‭ ‬على‭ ‬قدراته‭ ‬الذاتية‭ ‬أولا‭ ‬وقبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬صحيحٌ‭ ‬أنه‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تدعم‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وتعدّها‭ ‬قضيتها‭ ‬الأولى،‭ ‬لكنه‭ ‬يدرك،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الشعوب‭ ‬باتت‭ ‬مغلوبة‭ ‬على‭ ‬أمرها،‭ ‬وأن‭ ‬على‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬أن‭ ‬يتصرّف‭ ‬وفق‭ ‬حكمة‭ ‬‮«‬ما‭ ‬حكّ‭ ‬جلدك‭ ‬مثل‭ ‬ظفرك‮»‬‭.‬

لقد‭ ‬تابعت‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬بانبهار‭ ‬حقيقي،‭ ‬خصوصا‭ ‬منذ‭ ‬ظهور‭ ‬حركة‭ ‬عرين‭ ‬الأسود‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الحركات،‭ ‬ومن‭ ‬الشباب‭ ‬الذي‭ ‬يقاوم‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬بمفرده‭ ‬وبصدور‭ ‬عارية،‭ ‬أداء‭ ‬‮«‬جيل‭ ‬فلسطيني‭ ‬جديد‮»‬‭ ‬يؤمن‭ ‬بأن‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬قواه‭ ‬الذاتية‭ ‬وحدها،‭ ‬وأن‭ ‬المقاومة‭ ‬المسلحة‭ ‬وحدها‭ ‬طريق‭ ‬الخلاص،‭ ‬وأن‭ ‬كل‭ ‬البنادق‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تتجه‭ ‬نحو‭ ‬صدر‭ ‬المحتل‭ ‬الصهيوني‭... ‬تحية‭ ‬لهذا‭ ‬الجيل‭ ‬وللشعب‭ ‬الذي‭ ‬أنجبه،‭ ‬فالشعب‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬إنجاب‭ ‬جيل‭ ‬بهذا‭ ‬الشموخ‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُقهر‭.‬

 

{ أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية بجامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا