مع أن فوز «دونالد ترامب» في الانتخابات الأمريكية كان مفاجئا للكثيرين، فإن خطاب التنصيب الذي ألقاه قبل أيام جاء مفاجئا بقدر أكبر، في الشكل وفي المضمون.
في الشكل، فقد خرق التقاليد والأعراف السياسية بعدم ذكر الرئيس المنتهية مدته بكلمة طيبة بينما الرجل جالس على بعد مترين منه! ثم عدم الإعلان التقليدي عن مد يديه إلى من صوتوا له أو ضده على حد سواء، بل جاء خطابه مليئا بالتشفي والنية الواضحة في التنكيل بخصومه.
ولكن الأهم هو المضمون. وهنا يستوقفني ليس السياسات والبرامج المعروفة التي كان قد وعد الناخبين بها، بل ما تعبر عنه من فلسفة جديدة للحكم وتوجهات طويلة المدى ستكون ذات نتائج عميقة على المجتمع الأمريكي وعلى العالم بأسره. وفي تقديري أن هناك خمسة توجهات كبرى تستحق التوقف عندها:
1- الاستعداد لتجاهل قواعد القانون الدولي التي شكلت الإطار الحاكم للعلاقات الدولية منذ منتصف القرن الماضي، بما في ذلك مبدأ سيادة الدولة ذاته. ويرتبط بذلك خروج الولايات المتحدة من المنظمات الدولية التي لا تأخذ مواقف متفقة مع سياساتها مثل انسحابه من منظمة الصحة العالمية.
2 - العدول عن كثير من السياسات الداعمة للبيئة- مع أنها لم تكن كافية أصلًا- والانحياز لتنشيط الصناعة واستخراج المواد الطبيعية من دون اعتبار لمصلحة الإنسانية في حماية البيئة والحد من التدهور المناخي وتمثل ذلك في الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ.
3 - العمل على تنفيذ السياسات الاقتصادية التي تحقق منافع مباشرة للولايات المتحدة (أمريكا أولًا) أيًّا كان أثرها السلبي على الاقتصاد العالمي وعلى التجارة والاستثمار الدوليين، والعدول عن منهج العولمة الذي قاد التفكير الاقتصادي العالمي من سبعينيات القرن الماضي.
4 - الانتقال بالولايات المتحدة من بلد جاذب للمهاجرين ومشجع لانخراطهم في «أسلوب الحياة الأمريكي» إلى دولة ذات أسوار عالية وبوابات منيعة لا تُرحب إلا بمن له حاجة في سوق العمل أو سيضيف إلى المجتمع والاقتصاد.
5 - التعامل مع مبدأ سيادة القانون بشكل أقل قطعية، ليس باعتباره أساس تنظيم المجتمع، بل كواحد من أسس متعددة ومتصارعة لتنظيمه، مع القوة والسلطة والنفوذ المالي والاعتبارات العملية التي قد ترتفع فوق العدالة معصوبة العينين.
هذه أسس فكرية مختلفة جذريا ليس فقط عن تلك التي انتهجها الرئيس السابق جو بايدن، بل عن الاتجاه العام الذي ساد مع الأنظمة الغربية حتى تحت حكم الحكومات اليمينية التي ربما انتهجت سياسات اقتصادية محافظة، ولكنها لم تتبنَ بهذا الوضوح رؤية شاملة ومغايرة لأسس الليبرالية الغربية المستقرة.
وهذا لا يعنى أن الرئيس «ترامب» مخترع هذه الأفكار أو أنه جاء بجديد، بل لعله كشف الغطاء أكثر من غيره عن عجز الليبرالية التقليدية عن مواكبة تغيرات ديموغرافية وتكنولوجية وثقافية لعالم جديد، وعن إخفاء تناقضات متراكمة بين الأفكار المثالية والحالمة لطبقة حاكمة استراحت في مواقعها الوثيرة واحتياجات العصر ومتطلبات الجماهير.
فوز «ترامب» عام 2017 كان يبدو حدثًا استثنائيا وغريبا وعابرًا، أما فوزه الثاني فيعبر عن شيء أكبر وأكثر استمرارًا حتى بعد نهاية ولايته، عن تغير حادث في الولايات المتحدة وخارجها، نحو عالم أكثر قسوة وأقرب إلى الصدام أو الصراع على الموارد، وأبعد ما يكون عن أحلام العولمة والتكامل والأمن والسلم العالميين.
فاستعدوا لأننا على أبواب عصر جديد.. صعبٍ وقاسٍ.
{ خبير اقتصادي مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك