المسلم في حياته يتعرض لقدرين، الأول: هو قدر الله تعالى في خلقه، وما يواجهونه من بلاءات لا يَدٌ لهم فيها، وأما القدر الثاني، أو الآخر فهو القدر الذي يختارونه ويدعون الله تعالى ليلًا ونهارًا أن يحققه الله تعالى ذلك لهم، وتأملوا قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير) الشورى/ 27.
إذًا، فحين يدعو الإنسان، ويلح في الدعاء عسى الله تعالى أن يحقق له ما يرجوه ويتمناه، وهو يجهل مآل هذا الذي يطلبه، وأتم استجابة من الله تعالى لدعاء عبده هو أن يصرف عنه الشر ويحقق له الخير ذلك بعلمه ورحمته، فإذا انقضى زمن من دون أن يحصل الإنسان على ما طلب ظن العبد أن الله تعالى لم يستجب لدعائه، وذلك لأن العبد يجهل ما يضره وما ينفعه، ومعلوم أن إجابة الدعاء تأخذ أشكالًا مختلفة أبسطها وأيسرها أن يستجيب الله تعالى لدعاء عبده، فيحقق له ما سأل، وأعلى المرتبة الثانية في إجابة الدعاء أن يصرف عن عبده بدعائه شرًا كثيرا، وأما أعظم الإجابة وأتمها هي أن يحفظ الله تعالى دعوة عبده له إلى يوم القيامة ويضعها في ميزان حسناته، فترجح كفة الميزان، ويدخله الله تعالى بها الجنة ساعتها يتمنى العبد لو لم يستجب الله تعالى لجميع دعواته وحفظها له ليوم القيامة.
يقول الشاعر عمر الخيام:
غدٌ بظهر الغيب واليوم لي
وكم خيب الظن في المقبل
ونحن نعيش في زمنين، زمن مضى عرفنا أسراره وحقائقه، وزمن لم يأت أوانه بعد، ولا نعلم منه إلا ما أراد الله تعالى لنا أن نعلمه.
هذه حقائق توصل إليها الشاعر الفيلسوف من طول تأمله للأحداث، وسبره للنفس البشرية، وارتياده لمجالاتها المختلفة، ويؤكد مرات ومرات أن هناك قضاء لله في عباده، وقضاء للإنسان في ذاته.
قضاء الله تعالى للإنسان، قضاء العليم الخبير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور الذي يعلم الغيب، ويختار لنا ما يصلحنا ويصلح شؤوننا، وفِي ضوء هذه الحقيقة الساطعة البرهان، الواضحة البيان يقول سبحانه وتعالى: (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) الأنبياء / 35، ويقول تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) البقرة/ 216.
هذا هو خيار الإنسان.. يختار على جهل وقلة علم، بل وقصور في الإدراك، فًهو يسعى جاهدًا إلى تحبيب ما فيه شر إلى نفسه من دون أن يدرك العواقب، فإذا صرفه الله تعالى عما يظنه خيرا خالصًا له حزن وتمنى على الله تعالى الأماني، فإذا كشف الله تعالى له الحكمة وراء ذلك حمد الله وأثنى عليه سبحانه بما هو أهل له، يقول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفِي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء لا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قَدَّرُ الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان) الحديث صحيح للإمام مسلم.
إن قَدَر الله تعالى واقع لا محالة، وخير للعبد أن يرضى بما قضاه الله تعالى عليه، لأنه سبحانه يقضي بعلمه الشامل، وبرحمته الواسعة التي وسعت كل شيء، فيقضي لك الخير وإن ظهر لك غير ذلك، ويصرف عنك الشر وإن تبين لك بغير الوجه الذي تجلى لك، وتأمل في يقين ثابت قول الحق سبحانه: (ويدعُ الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا) الإسراء / 11.
هذه العجلة في الدعاء قد تورث صاحبها شرًا كثيرا كان يحسبه خيرًا، وعلى الإنسان أن ينظر ببصيرته لا ببصره فيلجأ إلى العليم البصير ويترك له أن يختار له ما فيه نفعه ومصلحته، وليطمئن قلبه، وترتاح إليه نفسه.
هذه العجلة التي حذرنا القرآن الكريم منها عند الدعاء قد تورثنا شرًا لا قبل لنا به، ومن هنا ندرك عظمة التوجيه النبوي حين أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نواجه البلاءات والمحن بصفات القوة والتمكين من الحرص على ما ينفعنا، وأن نستعين بالله تعالى لا بغيره من البشر العاجزين فضلًا عن الاستعانة بالضالين الذين حذرنا القرآن من سلوك طريقتهم، واتباع نهجهم، ثم نهانا صلوات ربي وسلامه عليه عن العجز في مواجهة الأحداث، والاستسلام لليأس، بل أمرنا بالتفاؤل، قال تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم) الزمر / 53.
وهذه الصفات تكون فاعلة إذًا ختمها العبد بتسليم أمره إلى الله تعالى حين يقول: (قَدَرُ الله) جزء من حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه.
إذًا، فالعبد حين يقع به بلاء لا يستطيع رده بأسبابه البشرية، فإنه يلجأ إلى مسبب الأسباب وهو الحق سبحانه الذي أمرنا بأن نلجأ إليه سبحانه حين تعز علينا الأسباب ألم يقل الحق سبحانه: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا) الإسراء / 67.
إذًا، فإذا وقع بالمؤمن بلاء له يد فيه، فعليه أن يزيل الدعم اللوجستي الذي ترسله النفس الأمَّارة بالسوء والنفس الفاجرة التي سهت أو غفلت عن العدو الذي يسعى للنيل منها، أما حين يكون البلاء خارجا عن إرادة الإنسان، فعلى العبد أن يسلم أمره إلى الله، ويقول: (قَدَرُ الله) وسوف يجد الدعم والتأييد من الله تعالى، فيزيل ما به من غم وهم، وإن أراد الله تعالى لعبده مزيدًا من الرفعة والسمو جعله من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه سبحانه، والرضا مادة تحلية إذًا أضافها العبد المبتلى إلى ما هو فيه من بلاء حَوَّل مرارة البلاء إلى عسل مصفى، أو أعانه على تحمل مرارته.
وإذا كان البلاء نازلًا بالعبد لا محالة فخير للعبد أن يصبر، ومن لم يستطع أن يصبر فعليه أن يتصبر.. كل ذلك سوف يكون في موازين حسناته يوم القيامة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك