ربما استكمالاً لموضوع حرائق كاليفورنيا الذي طرحناه الأسبوع الماضي، دار في خاطري موضوع، ربما كان نابعًا من حديث العديد من الأفراد الذين حاولوا ربط حريق كاليفورنيا بأحداث غزة، كان السؤال الذي يتردد في ذهني هو: كيف أهلك الله سبحانه وتعالى الأمم السابقة، ولماذا؟
وقد يتساءل البعض، لماذا تثير هذا الموضوع الآن، ألم تنطو صفحات التاريخ عليها؟
عندما هممت في البحث في هذا الموضوع، وجدت أن البحث في هذا الموضوع ليس مجرد البحث عن ظواهر منقضية في حقب زمنية غابرة، أكل عليها الدهر وشرب، كما يقال، بل هو بحث عن ظواهر جرت في تلك الحقب الزمنية ومازالت تتكرر في زماننا هذا، فمثل تلك الظواهر كانت سببًا في زوال وهلاك تلك الأمم، فهل يمكن أن تتكرر الأحداث نفسها إن تكررت تلك الظواهر؟ هل يمكن للأمم والشعوب والحكومات اليوم أن تتجنب تلك العقوبة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على تلك الأمم، كيف؟ فإن لم نتعظ بالتاريخ، فهل يستعظ بنا التاريخ؟
لنحاول أن نعيد قراءة تاريخ الأمم من خلال آيات القرآن الكريم، ونعمل بعض الإسقاطات على الواقع الحالي، لنقرأ الموضوع بحسب التاريخ الزمني.
أولاً: قوم نوح؛ كما ورد في القرآن الكريم فإن قوم سيدنا نوح عليه السلام هم أول الأقوام الذين هلكوا، حيث سكنوا الأرض قبل انتشار البشرية على الكرة الأرضية كلها، وكانوا أقرب الأقوام – بحسب الفترة الزمنية – لسيدنا آدم عليه السلام. أرسل الله سبحانه وتعالى إليهم سيدنا نوحًا عليه السلام بعد انحرافهم عن التوحيد إلى الشرك وعبادة الأصنام، فدعاهم ما يقرب من 950 سنة إلا أنهم بسبب العناد رفضوا الإسلام والتوحيد، ليس ذلك فحسب وإنما ازدادوا كفرًا وتكذيبًا كلما طالت الأيام، فأغرقهم الله سبحانه وتعالى بالطوفان العظيم.
يمكن الملاحظة أن قوم سيدنا نوح عليه السلام أهلكهم الله سبحانه بسببين، بحسب ما نفهم، وهما: رفضهم التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد سبحانه وتعالى والسبب الثاني، وهو: العناد، وهذه قضية أخلاقية خطيرة، فالعنيد يقفل عقله بأقسى قفل فهو ليس لديه أدنى استعداد للاستماع إلى وجهات نظر الآخرين أو التكيف مع الظروف المختلفة، فما بالنا ونحن نتحدث عن 950 سنة؟
ثانيًا: قوم عاد؛ اشتهر قوم سيدنا هود عليه السلام بصحة أجسامهم وقوّتها، وبطولهم العظيم إذ كان يبلغ أقصرهم -كما تشير بعض المراجع- إلى ستين ذراعًا، أما أطولهم فقد كان طوله مائة ذراع في السماء. وكذلك يعرف أنهم سكنوا مدينة (إرم ذات العماد) التي كانت تُعد من أجمل المدن وأشدها قوة ومنعة، وعندما دعاهم سيدنا هود عليه السلام بدعوة التوحيد، كفروا وكذبوا، وتكبروا وقالوا كما ورد في سورة فصلت – الآية 11 (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)، وذلك باعتقادهم أنهم بتلك الأجسام الضخمة القوية لن يستطيع أحد أن يخضعهم أو أن يناهزهم القوة، ولكن جاءهم الرد السريع وفي نفس الآية (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً).
ويمكننا أن نلاحظ أنه بالإضافة إلى رفض التوحيد وعبادة الله سبحانه وتعالى، كانت قضية قوم عاد التي قصمت ظهر البعير، كما يقال، الكبر والتكبر، حيث وجدوا أنهم عمالقة وضخام الأجسام والأبدان، فاعتقدوا أنه لا يمكن هزيمتهم، ولكنهم هلكوا بريح، فقطع دابرهم.
ثالثًا: قوم ثمود؛ برز قوم ثمود مباشرة بعد قوم عاد، فتمكنوا في الأرض، فوهبهم الله سبحانه وتعال القدرة على فن الهندسة والبناء والعمران، فقد كانوا ينحتون الجبال لعمل المساكن لهم، إذ كانت صخور الجبال طوعًا سهلاً في أيديهم وكأنها طين، وبذلك تمكنوا من كل هذا الجبال وشق الطرق وعمل كل ذلك، وليس ذلك فحسب وإنما رافق كل هذا رغد العيش، فبالإضافة إلى المهارات الهندسية التي كانوا يبرعون بها، فقد كانوا يعيشون في جنان وعيون وزروع وحدائق غناء. فبعث الله سبحانه وتعالى سيدنا صالح عليه السلام ليذكرهم بنعم الله ويدعوهم إلى التوحيد، إلا أنهم استنكروا عليه ذلك، فهل يمكن أن تزول كل هذه النعم، كما يدعي صالح عليه السلام؟ فطالبوه بدليل مادي حتى يؤمنوا، فبعث الله سبحانه لهم ناقة من الصخور التي كانت بالنسبة إليهم أطوع من الطين، إلا أنهم على الرغم من ذلك لم يؤمنوا، وإنما قتلوا الناقة، فجاءهم العذاب في صورة رجفة شديدة وزلزال ارتجت لها مبانيهم الجبلية، وصاعقة محرقة وصيحة مفزعة قطعت نياط قلوبهم، فماتوا.
يمكن أن يلاحظ أن قوم صالح عليه السلام، جحدوا بنعم الله سبحانه الذي مكنهم من الجبال والزراعة، وكذلك طلبوا معجزة مادية، فجاءتهم الناقة، وعلى الرغم من ذلك عصوا أمرًا مباشرًا من الله سبحانه، ألا يقتلوا الناقة، ولكنهم قتلوها، فكان عقابهم الهلاك.
رابعًا: قوم لوط؛ نعرف جميعًا أن قوم لوط عليه السلام ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد، واشتهروا بتلك الفاحشة وهي إتيان الرجال شهوة من دون النساء، ولم يكونوا يستترون وإنما كانوا يجاهرون بالفاحشة، فزجرهم لوط عليه السلام، إلا أن الفاحشة غدت إدمانًا لا يمكنهم تركها.
فبسبب الفاحشة والانغماس في الشهوات والخروج عن الفطرة البشرية، قلب الله سبحانه وتعالى قريتهم فجعل عاليها سافلها، ورافق ذلك صيحة عظمية، ومطر بحجارة من سجيل، فتمت إبادتهم.
خامسًا: قوم مدين؛ يبدو أن قوم مدين كانوا من التجار الذين يتعاملون بالميزان والمكيال وما إلى ذلك، لكنهم كانوا يقومون بنوع من الغش التجاري، وذلك بنقص المكيال والميزان، وربما كان هذا النقص قليلاً أو كثيرًا إلا أنه نوع من أنواع الغش، فمثلاً: من يريد أن يشتري كيلو من الشيء الفلاني فإنه يأخذ أقل من كيلو، وكان هذا هو الخطأ الذي تسبب في إرسال سيدنا شعيب عليه السلام لهم ليكون لهم ناصح أمين. إلا أنهم استنكروا عليه ذلك، فأصابهم الظلة وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم، ففاضت النفوس وخمدت الأجسام.
مجرد تطفيف المكاييل والميزان، بالإضافة إلى الشرك وعبادة الأوثان كان سببًا في هلاك أمة، فقد يقول قائل هل هذه الجنحة تستحق كل هذا، نقول يجب أن نفهم إن هذا نوع من الظلم والبخس والبغي بغير الحق، وخصوصًا على الفقراء والمستضعفين، وهؤلاء لهم حق الحياة، فمن المهم تجنب أي محاولة للغش التجاري.
سادسًا: قوم فرعون؛ تجبر فرعون، فقتل الأطفال والأمهات، واستباح الدماء واستعبد الشعب واستضعفهم، فتجبر وتكبر، وبلغ فيه الغرور إلى أقصى درجاته عندما نادى بالناس أنه الإله الذي يجب أن يعبد، وأنه يمكنه أن يحيي ويميت وأنه يستطيع أن يفعل ما يشاء. فأرسل الله سبحانه وتعالى إليهم سيدنا موسى عليه السلام ليذكرهم بالتوحيد وعدم الاستعلاء وأنه بشر مثله مثل غيره، ويجب أن يعدل بين الناس ولا يسخرهم عبيدًا، إلا أنه رفض وبشدة، ليس ذلك فحسب وإنما سخر واستكبر وزاد في بطشه وقسوته. وعندما بلغ الظلم وعبودية الإنسان ذروته، أغرقه الله سبحانه وتعالى هو وجنوده في البحر الذي كان يدعي أنه هو خالقه.
فرعون لم يستعبد أجسام البشر فقط، وإنما استعبد وسخر عقولهم وحياتهم وفكرهم، وجعل تلك العقول لا تفكر إلا فيما يريد هو، ورفض أي دعوة تحرر للإنسان وفكره، معتقدًا أنه هو الإله الذي يمنح الحياة، وهذه قمة الاستعباد وبلوغ ذروة النكران، وعندما يبلغ الإنسان هذه المرحلة يجب أن يذكر أنه إنسان فقط، مهما بلغت قوته وثروة وسلطاته، وعندما يرفض يحتاج إلى عقاب.
ثم يأتي بعد ذلك قارون، الذي بلغت كنوزه ومفاتيح كنوزه مضرب الأمثال، وأصحاب السبت الذين كانوا يتحايلون على أوامر الله، وأصحاب الرس، وقوم تبع، وغيرهم الكثير، كل هؤلاء وغيرهم انحرفوا عن المنهج الأخلاقي والإنساني على الرغم من الازدهار المادي والعمراني ورغد العيش الذي عاشوه. وعندما نقرأ آيات القرآن الكريم ونعيد دراسة تلك الأقوام السابقة نجد أنهم هلكوا بأحد الأسباب السابقة أو التالية:
1. الجحود بآيات الله تعالى وعصيان رسله.
2. اتباع أمر كل جبار عنيد، وإطاعة أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، كفعل عاد وثمود.
3. الفرح بالعلم المادي، والإعراض عما جاء به الوحي، كالذين حكى الله عنهم في آخر سورة غافر.
4. الغرور بالقوة المادية والثروة المالية، والغفلة عن بأس الله عز وجل، كفعل فرعون وقارون.
5. شيوع الفساد في الأرض، واستعلان المنكر، وعدم التناهي عنه.
6. الكفر بأنعم الله وعدم القيام بشكرها، بل استخدامها في معاصي الله سبحانه وتعالى.
7. الترف والبطر.
كل تلك الأقوام وغيرهم، سواء الذين ذكروا في القرآن الكريم أو لم يذكروا، فعلوا كل ما يحلو لهم من فساد متكامل، وعندما طال الزمان فيهم وهم على ذلك الوضع، ربما سبب لديهم اعتقادًا أنهم خالدون مخلدون في الأرض، وأنه لا يمكن أن يطولهم أي تغير كما حدث للأقوام السابقة، ولكن عندما بلغ فسادهم الإداري والمالي والأخلاقي ذروته، أهلكهم الله سبحانه وتعالى؛ فكلمة (كن) الصادرة من الله سبحانه وتعالى تتحرك عليها كل الجنود والأساطيل والبواخر، ولا نقصد الصواريخ والدبابات والأسلحة النارية، وإنما أمور بسيطة قد لا نفكر فيها مثل الرياح والمياه والنيران والحشرات وما إلى ذلك.
وسنن الله لا تتغير ولا تتبدل، فكما أهلكت الأقوام السابقة بسبب فسادها -أيًّا كان- فإن الأحداث من الممكن أن تتكرر، وخاصة إن اجتمعت كل تلك الأخلاقيات الفاسدة في أمة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات، فهل ندرك ما نفعل؟
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك