عفواً، لا أقصد هُنا بكلمة «المواقف» مواقف السيارات أو الحافلات، بل أعني بها تلك الحالات النفسية المتنوّعة التي يُواجهها الإنسان في حياته اليومية، فيقِفُ معها متفكّرًا في أسباب حدوثها وردّة فِعْلِه تُجاهها.
فمن المعلوم أنّنا بشرٌ نَمُرّ بمواقفَ عديدةٍ كلّ يوم؛ ونواجه أشياءَ جميلةً ورائعةً تترك بصمةً وأثرًا في نفوسنا، كما نقابلُ حالاتٍ سلبيةً وتجاربَ مؤلمةً تعكرّ صفاء سعادتنا، وتؤثر في نفوسنا، وهكذا هي الحياة، كما قال الشاعر:
فَلا حُزْنٌ يدومُ ولا سرورٌ
ولا بؤسٌ عليكَ ولا رَخَاءُ
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف نتعامل بذكاء ومهارة مع تلك المواقف؟
وقبل الحديث عن تفاصيل الموضوع، أنقلُ إليكم قصّةً حدثتْ في دولةٍ أوروبيةٍ؛ حيثُ طلبَ شخصٌ ما طعاماً مِنْ أحد المطاعم على أن يتسلمه بنفسه، وعند وصوله إلى المطعم خرجت إليه موظفة تسليم الطلبات، وَبَعْدَ حِوارٍ مقتضَبٍ دَارَ بينهما، انفعلَ الزّبونُ بشدّة، وقامَ بتوبيخ الموظفة، وَرَشّهَا بكوبٍ من الماء، ثمّ حرّك سيارته بسرعة جنونية، وبدأ يُسابقُ الريح ليغادر المكان.
وكانت في الموقع سيارة أخرى تنتظر تسلم طلبها كذلك، وشاهدَ صاحبُها المشهد، فسأل الموظفة:
-ماذا حدث؟
- حدث خير، الأمورُ على ما يُرام. أرى أنّ كلّ يوم هو نعمةٌ من الله تعالى، ولا أسمحُ لأيّ موقفٍ طارئ أن يؤثّر على حياتي ومسار عملي.
أثنى الرجل على شجاعتها وتسامُحِهَا وقدّم لها بعض أوراق المنديل لتمسح بها الماء عن وجهها وملابسها، سائلا:
-لماذا حدث الموقف؟
- الزبونُ طلبَ الطعام، وعِنْدَ الدفع اكتشفَ أنّ رصيده غير كافٍ لتسلم الطلب، فانفعلَ وصبّ جامَ غضبه عليّ كما رأيت.
- هل تتكرّر مثل هذه الأمور؟
- نعم، تَحْدُثُ؛ لأنّ الناس مختلفون في طبائعهم وأذواقهم وردود أفعالهم، فالعالم ليس على وتيرة واحدة.
- هل تصبرين دائماً؟
- نعم، بالتأكيد. لقد قرّرتُ أن أكون متسامحةً، وألا أسمح لأيّ إساءة بالتأثير على حياتي، كنتُ يوماً مشرّدةً بلا مأوى، وأعْلَمُ أنّه يجبُ عليّ احترام وظيفتي وأن أكون على قدْرٍ عالٍ من المسؤولية، حتّى لو تصَرّفَ بعضُ الناس ضدّي بتسرّعٍ وتهوّر. انتهى المشهد.
أعودُ فأقول:
إنّ المواقف السلبية كثيرةٌ وقابلةٌ للحدوث في أيّ مكان وزمان، فرُبّما حَدَثَتْ نتيجة غضبٍ وانفعال كما في المثال السابق، وربّما تَحْدُث نتيجة الأنانيّة والمراوغة، أو الحسد والغيرة، أو سوء الفهم والوشاية، وغير ذلك.
وهناك العديد من الاستراتيجيات للتعامل بذكاء مع تلك المواقف وإدارتها بنجاح، من أهمها ما يلي:
1-ادفع بالتي هي أحسن: احرص على هدوئك، والتزم الحكمة والصبر، وتجنّب التسرّع والانفعال، ومقابلة الإساءة بالإساءة فذلك سبيلُ الفشل وبريدُ الإخفاق.
إني رأيتُ وفي الأيّام تجرِبة
للصّبرِ عاقبةٌ محمودةُ الأثَرِ
2-عدم التهويل: لا تبالغ في تقدير المواقف، بل تعامل معها بعقلانية واعتدال ومن دونَ أن ترتبكَ أو تشعُر بالقلق، خُذ الأمور ببساطةٍ حينًا، وَبِرُوحٍ ريَاضيّة حِينا آخر، وبحزمٍ مقرون بالإنصاف حينًا آخر، فلكلّ موقفٍ طريقةُ احتواءٍ مناسبةٍ، ولكلُّ مقامٍ مقال، وإنّ ضبطَ المشاعر عِنْد الغضب مِنْ عاداتِ الأبطال فكنْ واحدًا منهم.
3-الابتسامة: حاول أن تبتسم، فلها تأثيرها السحري في مواجهة الظروف الصعبة، وهي تجعلك وكأنّك غير مهتمٍّ بما قِيْل وَحَدَث، وبذلك تكسب نصف الجولة.
4-التسامح والعفو: كن كريمًا في ردود الأفعال، ولا تُعطِ المواقفَ العابرة حجمًا أكبر من حجمها، فبَعْضُ الأموات لا يستَحِقّون كلّ هذا البكاء؛ كما يقولُ المثل (البشتوني).
5-التّعلم من التجارب: استفدْ مِنْ كلّ موقف تمرّ به؛ فالشخصُ الناجح يتعلّم مِنْ مواقفه، والتّجاربُ خير مدارس الحياة، واعلم أنّ مثل هذه المواقف تمنحك فرصة لتعلّم فنون حُسن التّصرف وسرعة الاستجابة، والذكاء الاجتماعي.
6-التأكيد على قوتك بالله: ذكّر نفسَك دائمًا أنك قوي بالله، وأنّ مع العُسرِ يُسرا، وأنّ مع الشدّة فَرَجا، وأنّ ما حدَثَ ليس سوى سحابة صَيْفٍ ستَنْقَشع قريبا.
7-الاحترام في الرد: حاول أن يكون ردُّك منطقيًّا وَمُنْصِفًا ومليئًا بالاحترام والودّ، ولا داعٍ للتنازل عن مستواك مقابلَ تَصَرّفٍ طائش أو كلمة جارحة.
شمعة أخيرة:
التّعرّض للمواقف السّلبية أمر طبيعي، ولن نتمكنّ مِنْ تغيير العالم مِنْ حولنا، لكن بتوفيق الله تعالى، ثم بالكلمة الطيبة، والحكمة والمرونة، والنّية الصالحة والشّجاعة اللازمة يمكننا تحويل هذه المواقف إلى فرص إيجابية مُثْمرة (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فصلت: 34.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك