العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

الاسلامي

التحكيم في القرآن الكريم

الجمعة ١٨ أغسطس ٢٠٢٣ - 02:00

‭  ‬السفير‭ ‬د‭. ‬عبدالله‭ ‬الأشعل

 

‭  ‬التحكيم‭ ‬أقدم‭ ‬من‭ ‬القضاء‭ ‬حيث‭ ‬مارسته‭ ‬المجتمعات‭ ‬القديمة‭ ‬والعشائرية‭ ‬والقبلية،‭ ‬وكان‭ ‬المحكم‭ ‬يتسم‭ ‬بصفات‭ ‬معينة‭ ‬أهمها‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أكبر‭ ‬سنا‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬مشهودا‭ ‬له‭ ‬بالعقل‭ ‬والعدل‭ ‬والنزاهة‭ ‬وحسن‭ ‬الخلق‭. ‬وعندما‭ ‬نشأت‭ ‬الدول‭ ‬استبدلت‭ ‬التحكيم‭ ‬بالقضاء‭ ‬الثابت‭ ‬الدائم‭ ‬وأصبحت‭ ‬هناك‭ ‬محاكم‭ ‬ثابتة‭ ‬وقضاة‭ ‬يجلسون‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المحاكم‭ ‬وقوانين‭ ‬بالإجراءات‭ ‬خاصة‭ ‬بالمحاكمات‭ ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬الدوائر‭ ‬القضائية‭ ‬وأصبح‭ ‬القضاء‭ ‬علما‭ ‬والتحكيم‭ ‬علما‭ ‬آخر‭ ‬وأصبح‭ ‬الخيار‭ ‬بين‭ ‬الطرفين،‭ ‬ولكن‭ ‬ليست‭ ‬كل‭ ‬القضايا‭ ‬مؤهلة‭ ‬للعرض‭ ‬على‭ ‬التحكيم‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬القضايا‭ ‬كان‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تعرض‭ ‬على‭ ‬القضاء‭. ‬وعندما‭ ‬ظهر‭ ‬الإسلام‭ ‬وانتشر‭ ‬واقيمت‭ ‬دولة‭ ‬المدينة‭ ‬كان‭ ‬الرسول‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬هو‭ ‬القاضي‭ ‬الأول،‭ ‬ولذلك‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬فرق‭ ‬بين‭ ‬التحكيم‭ ‬والقضاء‭ ‬مصداقا‭ ‬لقوله‭ ‬تعالى‭: ‬‮«‬فلا‭ ‬وربك‭ ‬لا‭ ‬يؤمنون‭ ‬حتى‭ ‬يحكموك‭ ‬فيما‭ ‬شجر‭ ‬بينهم‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬يجدوا‭ ‬في‭ ‬أنفسهم‭ ‬حرجا‭ ‬مما‭ ‬قضيت‭ ‬ويسلموا‭ ‬تسليما‮»‬‭ (‬المائدة‭-‬65‭) ‬مع‭ ‬ملاحظة‭ ‬انني‭ ‬اميل‭ ‬الى‭ ‬التفسير‭ ‬الموسع‭ ‬وهو‭ ‬ان‭ ‬سنة‭ ‬الرسول‭ ‬بعد‭ ‬وفاته‭ ‬اولى‭ ‬بالاتباع‭ ‬مصداقا‭ ‬لقول‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭ ‬في‭ ‬حجة‭ ‬الوداع‭ ‬‮«‬لقد‭ ‬تركت‭ ‬فيكم‭ ‬ما‭ ‬ان‭ ‬تمسكتم‭ ‬به‭ ‬لن‭ ‬تضلوا‭ ‬بعدي‭ ‬أبدا‭ ‬كتاب‭ ‬الله‭ ‬وسنتي‮»‬‭. ‬

ثم‭ ‬أصبح‭ ‬التحكيم‭ ‬مفضلا‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬مصداقا‭ ‬للقول‭ ‬المشهور‭ ‬القضاء‭ ‬يورث‭ ‬العداوة‭ ‬والبغضاء‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬هذا‭ ‬المثل‭ ‬سائغا‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬المتخلفة،‭ ‬بينما‭ ‬القضاء‭ ‬والاحتكام‭ ‬إلى‭ ‬القانون‭ ‬صار‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬الدول‭ ‬المتقدمة‭ ‬ثم‭ ‬أصبح‭ ‬التحكيم‭ ‬كعلم‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬تسوية‭ ‬المنازعات‭ ‬التي‭ ‬يطلق‭ ‬عليها‭ ‬التسوية‭ ‬الودية‭ ‬بخلاف‭ ‬التسوية‭ ‬القضائية‭ ‬للمشكلات‭ ‬الدولية‭ ‬والتي‭ ‬تشمل‭ ‬أيضا‭ ‬التحكيم،‭ ‬فليس‭ ‬كل‭ ‬موضوع‭ ‬للنزاع‭ ‬صالحا‭ ‬للتحكيم‭ ‬فاتسعت‭ ‬دائرة‭ ‬الموضوعات‭ ‬التي‭ ‬تعرض‭ ‬على‭ ‬التحكيم‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬التحكيم‭ ‬بديلا‭ ‬للقضاء‭.‬

وفي‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬ذكر‭ ‬التحكيم‭ ‬أيضا‭ ‬بمعنى‭ ‬فريد‭ ‬حرصا‭ ‬على‭ ‬تماسك‭ ‬الأسرة‭ ‬كوسيلة‭ ‬لتوقي‭ ‬الخلافات‭ ‬والمنازعات‭ ‬والشقاق‭ ‬بين‭ ‬الزوجين‭ ‬فنصت‭ ‬الآية‭ ‬الكريمة‭ ‬‮«‬35‭ ‬من‭ ‬سورة‭ ‬النساء‮»‬‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬خاف‭ ‬أهل‭ ‬الزوجين‭ ‬الشقاق‭ ‬بين‭ ‬الزوجين‭ ‬يلجؤون‭ ‬إلى‭ ‬التحكيم‭ ‬الاستباقي‭ ‬وذلك‭ ‬بأن‭ ‬يبعث‭ ‬كل‭ ‬طرف‭ ‬حكما‭ ‬من‭ ‬جانبه‭ ‬وليس‭ ‬هناك‭ ‬محكمة‭ ‬تحكيم‭ ‬أو‭ ‬رئيس‭ ‬لهذه‭ ‬المحكمة،‭ ‬وإنما‭ ‬يعتبر‭ ‬المحكم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬ممثلا‭ ‬لوجهة‭ ‬نظر‭ ‬الطرف‭ ‬الذي‭ ‬يمثله،‭ ‬ولذلك‭ ‬يكون‭ ‬منحازا‭ ‬لهذا‭ ‬الطرف‭ ‬لا‭ ‬يعصمه‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الانحياز‭ ‬إلا‭ ‬رغبة‭ ‬الطرفين‭ ‬الزوج‭ ‬والزوجة‭ ‬في‭ ‬تسوية‭ ‬الشقاق‭. ‬وقد‭ ‬أشار‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المحكمين‭ ‬وهما‭ ‬ممثلان‭ ‬لطرفي‭ ‬النزاع‭ ‬الذي‭ ‬تتجمع‭ ‬رياحه‭ ‬ونذره‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينشأ‭ ‬بالفعل‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬تبديد‭ ‬كل‭ ‬العوامل‭ ‬التي‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬نشأة‭ ‬النزاع،‭ ‬وهذه‭ ‬صورة‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬محصورة‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬الأمور‭ ‬الزوجية‭ ‬ولا‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬غيرها،‭ ‬والحكم‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬المحكم‭ ‬فالحكم‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭  ‬مدركا‭ ‬لقضية‭ ‬الطرف‭ ‬الذي‭ ‬يمثله،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬بطبعه‭ ‬منحازا‭ ‬لهذا‭ ‬الطرف،‭ ‬لكن‭ ‬ان‭ ‬يتوافر‭ ‬لديه‭ ‬النية‭ ‬في‭ ‬التوفيق‭ ‬لقوله‭ ‬تعالى‭: ‬‮«‬إن‭ ‬يريدا‭ ‬إصلاحا‭ ‬يوفق‭ ‬الله‭ ‬بينهما‮»‬‭. ‬والآية‭ ‬تشير‭ ‬في‭ ‬قسمها‭ ‬الاول‭ ‬إلى‭ ‬الزوج‭ ‬والزوجة‭ ‬والحكمين‭ ‬جميعا‭ ‬اما‭ ‬المستفيدان‭ ‬من‭ ‬المسعي‭ ‬الزوج‭ ‬والزوجة،‭ ‬ولكن‭ ‬إذا‭ ‬اراد‭ ‬الاثنان‭ ‬الاصلاح‭ ‬وفق‭ ‬الله‭ ‬الحكمين‭ ‬إلى‭ ‬الإصلاح،‭ ‬وإن‭ ‬أرادا‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬يكون‭ ‬مسعاهما‭ ‬تسجيلا‭ ‬للمحاولة،‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬المحاولة‭ ‬لا‭ ‬تمنع‭ ‬نشوب‭ ‬النزاع‭ ‬مادامت‭ ‬أسبابه‭ ‬قائمة‭.‬

على‭ ‬أن‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬لا‭ ‬يمنع‭ ‬امتداد‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المحاولات‭ ‬الودية‭ ‬إلى‭ ‬الانزعة‭ ‬حتى‭ ‬التجارية‭ ‬لأن‭ ‬توسيط‭ ‬أطراف‭ ‬النزاع‭ ‬لوسطاء‭ ‬يتمتعون‭ ‬بهذه‭ ‬الخصال‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يؤدى‭ ‬إلى‭ ‬تجنب‭ ‬النزاع‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يبدأ‭ ‬وقد‭ ‬اقترحت‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬المستثمرين‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬أن‭ ‬تنشأ‭ ‬لجنة‭ ‬يرضى‭ ‬عنها‭ ‬المستثمر‭ ‬والحكومة‭ ‬فتبدد‭ ‬السحب‭ ‬التي‭ ‬تتجمع‭ ‬وتنذر‭ ‬بنشأة‭ ‬النزاع‭ ‬حول‭ ‬الاستثمار‭ ‬أو‭ ‬حول‭ ‬عقد‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬الاستثمار‭ ‬ونجنب‭ ‬مصر‭ ‬مشاكل‭ ‬تصعيد‭ ‬هذا‭ ‬النزاع‭ ‬الذي‭ ‬يستقر‭ ‬أمام‭ ‬محكمة‭ ‬تحكيم‭ ‬دولية‭ ‬وتكون‭ ‬مصر‭ ‬هي‭ ‬المخطئة‭ ‬فتدفع‭ ‬تعويضا‭ ‬باهظا‭ ‬أثقل‭ ‬كاهلها‭ ‬وأصبح‭ ‬عبئا‭ ‬على‭ ‬اقتصادها‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا