زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
الميت ليس ميتا!!!
رحم الله شاعر العراق الكبير بدر شاكر السياب: إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون/ أيخون إنسان بلاده؟ إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟/ الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام؟/ حتى الظلام - هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق.
ما قرأت كلاما أجمل من هذا في حب الأوطان.
وقيل في أمر الحب بين الرجل والمرأة الكثير، ولكن قليلين من حاولوا تفسير: لماذا يحب الإنسان وطنه، وخاصة إذا كان حال ذلك الوطن يسبب الغم والإحباط بل والقرف أحيانا، (عندما ذهبت إلى بريطانيا لأول مرة كطالب علم، كان معنا طلاب من عدد من الدول العربية وأعلن بعضنا رغبته في السفر إلى الوطن خلال عطلة الكريسماس، وكان معنا طالب برازيلي «ثوري»، لم يخف دهشته بل صاح فينا: آر يو كريزي؟ أنتم مجانين؟ حد يسيب لندن في الكريسماس عشان يروح بلاد كلها نكد وغم؟!) ونحن أهل السودان شديدو التعلق بالوطن، ويتحدث الواحد منا عن السودان فتحسبه يتحدث عن جنة الله على الأرض، ومع هذا فنحن ندرك أن حال بلدنا لا يسر عدوا أو حبيبا، وإننا من أمم الأرض القليلة التي تتقدم إلى الوراء بخطى حثيثة مدروسة، بعد أن ابتلى الله قادتنا بالجدل وقلة العمل، ولكن إنصافا للساسة السودانيين فإنهم يرفعون الرأس كلما ظهروا على شاشات التلفزيون، بقدراتهم الفذة في طق الحنك، أي على الكلام المركّز والمكثف حسن الحبك والسبك، حتى يقنعوا المشاهد بأن السودان كما ليبيا الموهوم معمر القذافي، قوة عظمى، ثم تتأمل حال البلاد والعباد فتكتشف أن كل ما استمعت إليه لغو والغ في التضليل والتجهيل.
وفي بلد حاله كذلك لا بد من حدوث مضحكات مبكيات، ومن ذلك ما أوردته صحف الخرطوم ذات عام عن رجل قروي توفي إثر علة لم تمهله طويلا، وترك الجثمان في العنبر بعد غسله وتكفينه ولفه بملاءة بيضاء، إلى حين إصدار شهادة الوفاة، وبعد استيفاء الإجراءات الرسمية، سمحت سلطات المستشفى لذوي المتوفى بنقله للدفن في قريته، وهكذا وضع الجثمان في سيارة نصف نقل مكشوفة انطلقت به إلى القرية للصلاة عليه ودفنه، وجلس بعض الأقارب حول الجثمان وهم في حزن عظيم، وكان الطريق الذي سارت عليه السيارة يشبه الطريق الذي أرغم الساسة البلاد على السير فيه، مليئا بالحفر والمطبات، فظلت الشاحنة الصغيرة تتقافز بينما مفاصلها تئن وتزنّ، مما ضايق المتوفى، فهب من سريره جالسا وهو يطنطن: يا جماعة خلوا عندكم ذوق واستأجروا سيارة بنت ناس، وأنا مش ناقص عشان تدشدشوا عظامي بسيارة بيك اب مكعكعة!! فقفز من كانوا حوله أرضا، وأصيب معظمهم بكسور مركبة وتم نقلهم إلى المستشفى، بينما تركوا المرحوم يعود إلى بيته بعد أن «غيّر رأيه»، لأنه لم يكن ميتا أصلا، وكل ما في الأمر هو أنه كان في السرير الملاصق لشخص آخر توفي بالفعل، ويغط في نوم عميق تحت تأثير مخدر ملتحفا بملاءة بيضاء نسبيا، وبسبب الكلفتة في المستشفى تركوا الميت «الأصلي» وسلموا المريض المخدر لأهل الميت، فأيقظته المطبات، فنجا من الدفن!
وفي بلدة صغيرة تقع جنوب الخرطوم سقط عامل بناء من على سقالة، فوضعه زملاؤه على سرير وساروا به صوب المستشفى حاملين السرير على أكتافهم، فرآهم بعض المارة وكعادة أهل السودان تطوعوا لحمل السرير لبعض الوقت ــفي السودان يتسابق الناس على حمل جثمان المتوفى كلما مرت بهم جنازةــ طبعا اعتقدوا أن المحمول على الآلة الحدباء ميت، ويبدو أن العامل المصاب أحس بالألم وأراد أن يشير إلى من يحملونه بالتوقف قليلا، فأنزل يده وربت على كتف أحد المتطوعين، وبداهة فقد أصيب الرجل بلوثة لأنه حسب أن المتوفى نهض من مواته فأفلت السرير من يده وسقط العامل المصاب أرضا فدقت عنقه وراح فيها نهائيا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك