زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
كيف نلنا البراءة من الخرف
بالرغم من أنني عملت في مجال التلفزيون زهاء ثلاثين سنة، إلا أنني شديد التحفظ حول كثير مما تبثه القنوات التلفزيونية، وظللت وسأظل سيء الظن بالكثير من الفضائيات العربية التجارية، ثم مدّ الله في أيامي وشهدت عصر يوتيوب، فأغناني هذا التطبيق عن متابعة البث التلفزيوني حتى في مجال الأخبار، ثم لحقت بعصر نيفليكس، فانتقل بي إلى ماض جميل في مجالي السينما والتلفزة.
وبصفة عامة فإنني أحمد الله بكرة وعشية لأنه ما من أحد من أفراد أسرتي الصغيرة يعاني من الخرف أو أعراضه، بسبب نعمة أنعمها الله علينا، وهي أننا جميعاً لا علاقة لنا بالمسلسلات التلفزيونية، لا عربية ولا إفرنجية، وأقول بكل فخر إنه لا تتردد في بيتنا العبارات السخيفة المحفوظة: الجوازة دي مش ممكن تتم.. بحبه يا بابا.. قطيعة تقطع الرجالة وسنين الرجالة.. يللا نروح الأوتيل.. بدي أبعد عن جو البيت لأن الماما كتير كتير رجعية.. ميرسي كتير لي الله.. (ترجمتها: الشكر لله).. جوزي ما بيتعقد لما يشوفني برقص سلو مع حدا غيرو (يعني تحمد الله لأن زوجها تيس وهذا حمد في غير موضعه. وهو كأن تقول: خطيب بنتي عاطل ولكن الحمد لله أبوه غني. مهرب مخدرات كبير).
نعم، نعمة ألا تسمع مثل ذلك الكلام الركيك الذي لا يخلو منه مسلسل تلفزيوني واحد. ونعمة أن تحترم عقلك فلا تتابع حكايات مملة ومستنسخة، ونعمة ألا يعرف عيالك مهند ونور وبقية البلطجية الأتراك، وألا تجد في بيتك شاشة تدور فيها مشاجرة بين أم مكسيكية وبنتها لأن الأم دخلت في علاقة مع بوي فريند بنتها، ولا هنودا يفاجئونك بأن زوجة بطل المسلسل، هي في حقيقة الأمر أمه، وأن بنته هي أخته.
نشرت الصحف البريطانية قبل أيام نتائج دراسة أجرتها مراكز بحوث طبية وجامعات أثبتت أن من يتابعون المسلسلات التلفزيونية بانتظام يكونون أكثر عرضة للخرف والتخريف بما يعادل 13 ضعفا من غيرهم الذين تقتصر مشاهداتهم التلفزيونية على الأخبار والبرامج العلمية والثقافية. كما أن البرامج الكلامية المتعلقة بالدردشة مع الممثلين والمطربين والمشاهير لها نفس التأثير الضار بالدماغ، أي إنها بدورها تزيد احتمالات الخرف.
لاحظ أن تلك البحوث تتعلق بمسلسلات (متعوب فيها)، يعني بذل فيها جهد فني كبير من حيث الحبكة الدرامية وفنيات التصوير، وفي بريطانيا مسلسلات استمرت أربعين أو ثلاثين ونيف سنة مثل كورونيشن ستريت (مات ثلاثة أرباع من شاركوا في حلقاته المائة الأولى) وكروس رودز وإيست أندرز، وتقابلها مسلسلات أمريكية وأسترالية مثل السوبرانوز ودالاس ونيبرز.
أعني أنه إذا كانت مسلسلات ينفق منتجها مئات الملايين من الدولارات تسبب الخرف، فما بالك بمسلسلاتنا التي تكلف مئات الملاليم.
ومن دون أي ادعاء للتواضع فإنني أعتقد أنني ذكي بل عبقري، ففي (عصري الجاهلي)، كنت أتوقف بضع دقائق عند مسلسل تلفزيوني عربي دون الالتفات إلى رقم الحلقة، وكنت بعدها أكتب في ذاكرتي ما فاتني منها من أحداث وما ستنتهي إليه الأحداث بانتهاء المسلسل، وكنت في معظم الحالات أكتشف أن تقديراتي في منتهى الدقة: سامي سيطلق سالي ومايا ستنتحر، ويونس القفل سيدخل السجن. تماما كما كنت أمتحن عبقريتي عندما كنت أعمل بالصحافة المكتوبة وأعد تقارير عن نتائج القمم العربية قبل انعقادها وصدور قراراتها بنحو أسبوعين ولم تخيب قمة قط ظني فكانت القرارات كما توقعت في كل مرة، بل بلغت بي الثقة بالنفس أنني كنت خلال عملي في الصحافة الورقية أجهز الكلمة الافتتاحية عن نتائج أي قمة عربية، قبل انعقادها بأيام، وأسلمها لرئيس التحرير وأقول له: لو اكتشفت أنني أخطأت في الاستنتاج والتحليل حتى في «شبه جملة»، فلك أن تجعل حياتي «غمة»، فكان يقول لي على من هاذي السوالف أنتم يا سودانيين أصلا تنطقون القمة غمة.. ولم يحدث أن «غمني» رئيس التحرير.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك