العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨١ - السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن قسوة القانون

حدثتكم‭ ‬بالأمس‭ ‬عن‭ ‬السريلانكي‭ ‬الذي‭ ‬قضى‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬50‭ ‬سنة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬تقديمه‭ ‬لمحاكمة‭ ‬لأن‭ ‬السلطات‭ ‬نسيت‭ ‬ذلك،‭ ‬ونبقى‭ ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬السجن‭ ‬والسجناء،‭ ‬بغرض‭ ‬إثبات‭ ‬أن‭ ‬العدالة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬عرجاء‭ ‬حينما‭ ‬يكون‭ ‬المتهم‭ ‬أو‭ ‬المدان‭ ‬من‭ ‬عامة‭ ‬الناس،‭ ‬ولمن‭ ‬فاتهم‭ ‬مقال‭ ‬الأمس‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬ذلك‭ ‬السريلانكي،‭ ‬أصاب‭ ‬والده‭ ‬بجرح‭ ‬طفيف‭ ‬في‭ ‬يده‭ ‬إثر‭ ‬نوبة‭ ‬هياج‭ ‬نجمت‭ ‬عن‭ ‬مرض‭ ‬نفسي،‭ ‬فأدخلوه‭ ‬مستشفى‭ ‬للأمراض‭ ‬النفسية،‭ ‬ثم‭ ‬أعادوه‭ ‬إلى‭ ‬السجن،‭ ‬ونسوا‭ ‬أمره‭ ‬خمسين‭ ‬سنة،‭ ‬وغادر‭ ‬السجن‭ ‬الذي‭ ‬دخله‭ ‬شابا‭ ‬وهو‭ ‬كفيف،‭ ‬وحكمت‭ ‬له‭ ‬المحكمة‭ ‬بتعويض‭ ‬ضخم‭ ‬قدره‭ ‬14‭ ‬ألف‭ ‬دولار‭ (‬اقسم‭ ‬14000‭ ‬على‭ ‬50‭ ‬ثم‭ ‬اقسم‭ ‬الحاصل‭ ‬على‭ ‬365،‭ ‬لتعرف‭ ‬كم‭ ‬كان‭ ‬مبلغ‭ ‬التعويض‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬قضاه‭ ‬في‭ ‬الحبس‭).‬

ولكنني‭ ‬اليوم‭ ‬أعبر‭ ‬بكم‭ ‬البحار‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭: ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الخمس‭ ‬الماضية‭ ‬نال‭ ‬27‭ ‬مواطنا‭ ‬أمريكيا‭ ‬حق‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬محكوما‭ ‬عليهم‭ ‬بالإعدام‭ ‬وبعد‭ ‬سنوات‭ ‬طوال،‭ ‬تتراوح‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬تسع،‭ ‬وسبع‭ ‬عشرة‭ ‬سنة‭ ‬ثبتت‭ ‬براءتهم‭ (‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬يتعللون‭ ‬بعدم‭ ‬التعجل‭ ‬في‭ ‬تنفيذ‭ ‬أحكام‭ ‬الإعدام،‭ ‬بأنه‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬المحكوم‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يستأنف‭ ‬الحكم‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬المستويات،‭ ‬وأنه‭ ‬من‭ ‬الوارد‭ ‬أن‭ ‬يخفف‭ ‬حاكم‭ ‬الولاية‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬ما،‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬ما،‭ ‬الحكم‭ ‬إلى‭ ‬السجن‭ ‬المؤبد‭). ‬ما‭ ‬لفت‭ ‬انتباهي‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬البريطاني‭ ‬كيني‭ ‬ريتشي،‭ ‬الذي‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬بلاده‭ ‬سعيدا‭ ‬قادما‭ ‬من‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وكان‭ ‬حُكمٌ‭ ‬بالإعدام‭ ‬قد‭ ‬صدر‭ ‬بحقه‭ ‬قبل‭ ‬عشرين‭ ‬سنة،‭ ‬بجريرة‭ ‬قتل،‭ ‬وبتطور‭ ‬تقنيات‭ ‬فحص‭ ‬الحمض‭ ‬النووي‭ ‬ثبتت‭ ‬براءته‭. ‬دعك‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬لجريمة‭ ‬لم‭ ‬يرتكبها،‭ ‬فقط‭ ‬تخيل‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬ذلك‭ ‬الشخص‭ ‬يتوقع‭ ‬إعدامه‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬لحظة‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬7300‭ ‬يوم‭. ‬وكل‭ ‬ذو‭ ‬حس‭ ‬إنساني‭ ‬لا‭ ‬يعترض‭ ‬على‭ ‬تطويل‭ ‬الإجراءات‭ ‬في‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬يكون‭ ‬الإعدام‭ ‬عقوبة‭ ‬لها،‭ ‬فإزهاق‭ ‬روح‭ ‬إنسان‭ ‬على‭ ‬عجل‭ ‬وبأسلوب‭ ‬يتسم‭ ‬بالكلفتة‭ ‬يرقى‭ ‬إلى‭ ‬القتل‭ ‬العمد،‭ ‬ولكن‭ ‬أن‭ ‬يصدر‭ ‬حكم‭ ‬بالإعدام‭ ‬على‭ ‬ابن‭ ‬آدم،‭ ‬ويظل‭ ‬المحكوم‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬تنفيذ‭ ‬الحكم‭ ‬عشرين‭ ‬سنة،‭ ‬فهذه‭ ‬قسوة‭ ‬لا‭ ‬تتسم‭ ‬بها‭ ‬حتى‭ ‬الأنظمة‭ ‬القضائية‭ ‬العشوائية‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭.‬

معليش،‭ ‬سأستشهد‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬بتجربتي‭ ‬القصيرة‭ ‬في‭ ‬السجن‭ (‬وليس‭ ‬قصدي‭ ‬تأكيد‭ ‬أنني‭ ‬مناضل،‭ ‬فالفترة‭ ‬التي‭ ‬قضيتها‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬كانت‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬المرارات،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬معي‭ ‬أعز‭ ‬أصدقائي،‭ ‬وكنا‭ ‬نقضي‭ ‬معظم‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬القراءة‭ ‬وألعاب‭ ‬التسلية‭ ‬وكانت‭ ‬علاقتنا‭ ‬بحراس‭ ‬السجن‭ ‬أخوية‭ ‬وبيننا‭ ‬احترام‭ ‬متبادل،‭ ‬ولم‭ ‬نتعرض‭ ‬لتعذيب‭ ‬أو‭ ‬إذلال‭). ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬نقلوني‭ ‬ضمن‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المعتقلين‭ ‬السياسيين‭ ‬إلى‭ ‬قسم‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬يحمل‭ ‬اسم‭ ‬الزنزانات‭ ‬الشرقية،‭ ‬وفي‭ ‬ليلتي‭ ‬الأولى‭ ‬هناك‭ ‬تناهت‭ ‬إلى‭ ‬آذاننا‭ ‬صرخات‭ ‬وعويل‭ ‬وبكاء‭ ‬صادرة‭ ‬من‭ ‬رجل،‭ ‬وقال‭ ‬لنا‭ ‬بعض‭ ‬‮«‬أرباب‭ ‬السوابق‮»‬‭ ‬من‭ ‬السياسيين،‭ ‬إن‭ ‬زنازين‭ ‬الإعدام‭ ‬تقع‭ ‬خلف‭ ‬زنازيننا‭ ‬وإن‭ ‬ذلك‭ ‬الشخص‭ ‬سيعدم‭ ‬شنقا‭ ‬في‭ ‬فجر‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭. ‬أصبت‭ ‬برعشة‭ ‬ونوبة‭ ‬بكاء‭ ‬هستيري‭. ‬تخيلته‭ ‬يساق‭ ‬إلى‭ ‬المشنقة‭ ‬ويداه‭ ‬وساقاه‭ ‬مكبلتان‭ ‬بالأصفاد‭ ‬وكيس‭ ‬أسود‭ ‬على‭ ‬رأسه،‭ ‬ويضعون‭ ‬الأنشوطة‭ ‬حول‭ ‬رقبته‭ ‬ثم‭ ‬يسحبون‭ ‬القطعة‭ ‬الخشبية‭ ‬التي‭ ‬يقف‭ ‬عليها‭ ‬فيتدلى‭ ‬جسمه‭ ‬بفعل‭ ‬الكيس‭ ‬الرملي‭ ‬المربوط‭ ‬إلى‭ ‬رجله،‭ ‬وتنكسر‭ ‬رقبته‭ ‬محدثة‭ ‬طقطقة‭ ‬يسمعها‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬حوله،‭ ‬ويكشف‭ ‬الطبيب‭ ‬على‭ ‬الجثمان‭ ‬وقد‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬حيا‭ ‬فيتم‭ ‬تكرار‭ ‬عملية‭ ‬الإعدام،‭ (‬يقال‭ ‬إنه‭ ‬صدر‭ ‬حكم‭ ‬بإعدام‭ ‬روسي‭ ‬شنقا‭ ‬وشنقوه‭ ‬ولم‭ ‬يمت،‭ ‬وسقط‭ ‬عنه‭ ‬حكم‭ ‬الإعدام‭ ‬فجاءت‭ ‬صيغة‭ ‬‮«‬الإعدام‭ ‬شنقا‭ ‬حتى‭ ‬الموت‮»‬‭. ‬يعني‭ ‬لازم‭ ‬تموت‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬اضطر‭ ‬الجماعة‭ ‬إلى‭ ‬تكرار‭ ‬الشنق‭ ‬أربع‭ ‬مرات‭).. ‬انتظار‭ ‬الموت‭ ‬المحتوم‭ ‬أصعب‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬الموت‭ ‬ذاتها‭.‬

كان‭ ‬السجناء‭ ‬الجنائيون‭ ‬يكلفون‭ ‬بتنظيف‭ ‬الأماكن‭ ‬التي‭ ‬يقيم‭ ‬فيها‭ ‬المعتقلون‭ ‬السياسيون،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬متهمون‭ ‬بجرائم‭ ‬قتل‭ ‬ظلوا‭ ‬محبوسين‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬دون‭ ‬محاكمة‭ ‬أو‭ ‬شهدوا‭ ‬جلسة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬محكمة‭ ‬ولم‭ ‬يتم‭ ‬استدعاؤهم‭ ‬بعدها‭ ‬قط،‭ ‬ونجح‭ ‬محامون‭ ‬كانوا‭ ‬معنا‭ ‬في‭ ‬المعتقل،‭ ‬في‭ ‬شطب‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬قضايا‭ ‬تلك‭ ‬الفئة،‭ ‬دون‭ ‬كبير‭ ‬عناء‭ ‬بالطعن‭ ‬في‭ ‬مخالفة‭ ‬حبسهم‭ ‬لقانون‭ ‬الإجراءات‭ ‬الجنائية‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لا‭ ‬يثير‭ ‬الدهشة‭ ‬أن‭ ‬شخصا‭ ‬ما‭ ‬يظل‭ ‬في‭ ‬طابور‭ ‬الموت‭ ‬death‭ ‬row‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬15‭ ‬سنة‭ ‬يموت‭ ‬خلالها‭ ‬يوميا‭. ‬ثم‭ ‬يطالبوننا‭ ‬باتباع‭ ‬المدرسة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬العدالة‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا