في الثاني من ديسمبر 2024 أصدرت الخارجية الأوكرانية بياناً تضمن إعادة التأكيد على أنه لا بديل لأوكرانيا عن عضوية حلف الناتو، وأنه لا قبول بأي ضمانات أمنية عن تلك العضوية، وذلك في ظل متغيرين أولهما: فقدان أوكرانيا المزيد من الأراضي وسط تصعيد للحرب، وثانيهما: تعهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية أنه سوف يعمل من أجل التوصل إلى اتفاق ينهي تلك الحرب، تطورات متلاحقة تحمل في طياتها تساؤلات عديدة، حيث تعكس التصريحات الرسمية الأوكرانية العودة إلى نقطة الصفر في تلك الحرب، وبشكل موجز فإن السبب الرئيسي لاندلاع تلك الحرب كان إعلان أوكرانيا رغبتها الانضمام للناتو وهو الأمر الذي رفضته روسيا ، فهي وإن كانت قبلت في الماضي ضم الحلف لجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق للحلف فإن الأمر يبدو مختلفاً في الحالة الأوكرانية سواء بالنسبة لموقعها الجغرافي أو كونها ما يطلق عليه «الدولة العازلة» ذات المساحة الشاسعة والتي ترى روسيا أنه يجب ألا تكون تلك الدولة ضمن حلف شمال الأطلسي «الناتو»، ومع تعثر الحوار السياسي بين الدول الغربية وروسيا كانت النتيجة هي الحرب في أوكرانيا، فما هي مواقف الأطراف الثلاثة وكيف تؤثر على مسار التفاوض المستقبلي بين كل من روسيا وأوكرانيا؟
بالنسبة لحلف الناتو نجد أنه لم يحدث تغير ملحوظ في موقفه بشأن رغبة أوكرانيا الحصول على عضوية الحلف حتى مع تعيين أمين عام جديد للحلف، ففي تصريح له أكد مارك روته الأمين العام للحلف أن «أوكرانيا ليست في وضع من القوة يسمح لها بإبرام اتفاق مع روسيا وأنه يتعين أن تكون في وضع أقوى، وأنه يتعين على الحلفاء تزويد أوكرانيا بالأسلحة لهذا الغرض واستبعد إمكانية نشر حلف الناتو قوات له في المنطقة لتجنب المواجهة مع روسيا»، وتعكس تلك التصريحات موقف الحلف الثابت بأنه لا مجال للحرب مع روسيا، ولكن التساؤلات تثار حول حجم الدعم الذي يمكن أن يستمر الحلفاء في تقديمه لأوكرانيا وعما إذا كان له تأثير على تعزيز موقف أوكرانيا؟ فعلى الرغم من الدعم الهائل الذي حصلت عليه أوكرانيا فإنه لم يترجم على الأرض في العمليات العسكرية، وبمتابعة الموقف الأوكراني نجد أنه يتغير وفقاً لتغير الموقف على الأرض وانطلاقاً من الوضع الراهن الذي تسيطر فيه روسيا على العديد من المناطق الأوكرانية فقد اقترح الرئيس الأوكراني بأنه يمكن إنهاء المواجهة العسكرية الراهنة بشرط حصول أوكرانيا على عضوية الحلف وتفعيل بنود مذكرة بودابست للضمانات الأمنية وهي معاهدة تم توقيعها عام 1995 بين أربع دول هي روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومن أهم بنودها نزع السلاح النووي الأوكراني مقابل تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا، أما المواقف الغربية فيبدو من البداية أن استراتيجية الدول الغربية كانت تجنب المواجهة المباشرة العسكرية مع روسيا لاستنزاف القوة الروسية في أوكرانيا ولكنه كان رهاناً خاطئاً، حيث تشير المؤشرات أن روسيا بإمكانها مواصلة الحرب سنوات قادمة بلا تأثيرات كبيرة، من ناحية ثانية يلعب عامل الردع النووي دوراً مهماً في سياق تقييم تلك المسألة، ولكن في الوقت ذاته فإن استمرار تقديم المساعدات الغربية أمر محل جدل ليس فقط في داخل الدول الغربية بشأن جدوى تلك المساعدات، ولكن أيضاً في ظل واقع القوة الروسية التي استطاعت بالفعل السيطرة على مناطق أوكرانية عديدة.
وبعيداً عن الاستطراد في تحليل مواقف الأطراف الثلاثة، فإن الحرب الأوكرانية التي تقترب من عامها الثالث قد عكست خمسة أمور مهمة أولها: سيادة قناعة لدى حلف شمال الأطلسي «الناتو» أن روسيا وإن كانت ليست بقوة الاتحاد السوفيتي السابق ولكنها لا تزال تمثل عامل ردع وتوازن نووي لا يستهان به، فضلاً عن الأسلحة التقليدية وتوظيف التكنولوجيا العسكرية في تلك الحرب وهي أمور حاسمة في سياق أي مفاوضات، وثانيها: أن تجربة الحرب في أوكرانيا قد أوضحت حجم الانكشاف الأمني الأوروبي، صحيح أنه كانت هناك محاولات لتأسيس آلية للأمن الذاتي الأوروبي بعيداً عن الناتو، لكنها محاولات لم يكتب لها النجاح بل إن هناك مطالبات دائمة من جانب الولايات المتحدة للدول الأوروبية أعضاء الناتو بالالتزام بتخصيص 2% من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع، وسوف يكون ذلك ضمن أجندة الرئيس ترامب في ولايته الجديدة أيضاً، وثالثها: أن حرب أوكرانيا كانت مخاضاً نحو محاولة إيجاد نظام عالمي متعدد الأقطاب، ربما لن يتحقق ذلك على المدى المنظور ولكنها أوضحت بلوغ الصراع والتنافس الدولي حد التصادم، بل والأهم الاصطفافات الدولية من جانب القوى الصاعدة في ذلك النظام بجانب هذا الطرف أو ذاك، ورابعها: كيفية موازنة الدول بين مصالحها الوطنية والسياق الإقليمي وخاصة مسألة توازن القوى، فالمصالح الوطنية للدول ترتبط على نحو وثيق بتوازن القوى الإقليمي ولا بد أن تكون جزءًا من استمرار ذلك التوازن وألا تكون جزءًا من صراعات محتدمة تستهدف تغيير ذلك التوازن، وهو مفهوم مهم في سياق العلاقات الدولية فهناك توازن قوى بسيط بين دولتين أو أكثر وآخر مركب بين عدد من الدول، وخامسها: أنه بغض النظر عن أسس قوة الأطراف المختلفة في الصراعات الدولية، فإن الموقف العسكري على الأرض سيكون هو الأمر الحاسم بشأن مضامين المفاوضات وما سوف تسفر عنه من اتفاقيات.
وتبقى المعضلة الأهم في سياق تلك الأزمة، وهي رغبة حلف الناتو في التمدد وضم دول جديدة ضمن نظام محدد للعضوية كأقوى تحالف عسكري في العالم منذ حقبة الحرب الباردة وحتى الآن مع رفض روسي للمزيد من تطويق الحلف للمناطق التي تراها روسيا مناطق ذات أهمية استراتيجية لأمنها القومي، ولا شك أن حواراً أطلسياً- روسياً بات مطلوباً مجدداً من خلال تفعيل مجلس الناتو – روسيا مجدداً والذي تأسس عام 2002 كآلية للحوار بين الجانبين ويستهدف مناقشة كافة القضايا التعاونية والخلافية ولكن تجمدت أعماله قبيل بدء الحرب في أوكرانيا.
ومع أن الصراع الأطلسي – الروسي ليس وليد اليوم، فإن التساؤل الأهم هو: وفق أي شروط يمكن أن تقبل أوكرانيا بإنهاء تلك الحرب وخاصة في ظل تأكيد الناتو أن عضوية أوكرانيا ليست أولوية الآن وتردد غربي بالاستمرار في تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا؟ وأخيراً تأكيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على إنهاء تلك الحرب، وجميعها ملفات بالغة التعقيد ومترابطة، ولكن في المجمل أن تلك الحرب بغض النظر عن كيفية إنهائها فإن بها العديد من الدروس المستفادة ليس فقط للدول الأوروبية بل للعديد من الدول التي توصف بأنها «دول عازلة».
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك