العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

مقالات

موروث شعبي بخربشات كارتونية

بقلم: المحامية د. هنادي عيسى الجودر

الأحد ٠٩ أبريل ٢٠٢٣ - 02:00

القراء‭ ‬الأعزاء،

لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬الثقافية‭ ‬مفاهيم‭ ‬متعددة،‭ ‬تنبثق‭ ‬من‭ ‬المفهوم‭ ‬الشاسع‭ ‬للثقافة‭ ‬والذي‭ ‬يتّسع‭ ‬ليشمل‭ (‬الالمام‭ ‬بالفنون‭ ‬والانسانيات‭ ‬والعلوم‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬وكل‭ ‬جديد‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬صعيد،‭ ‬وقد‭ ‬تعني‭ ‬سلوك‭ ‬الانسان‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬والكلام‭ ‬والفعل‭ ‬والمهارات‭ ‬والإنتاج‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬كما‭ ‬تشمل‭ ‬قدرة‭ ‬الانسان‭ ‬على‭ ‬التعلم‭ ‬والتأقلم‭ ‬ونقل‭ ‬وتوريث‭ ‬المعرفة‭ ‬للأجيال‭ ‬اللاحقة،‭ ‬وقد‭ ‬تعني‭ ‬أيضا‭ ‬منظومة‭ ‬المعتقدات‭ ‬والقيم‭ ‬والعادات‭ ‬والتقاليد،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الخصائص‭ ‬المادية‭ ‬للجماعات‭ ‬العرقية‭ ‬أو‭ ‬الطائفية‭ ‬أو‭ ‬الاجتماعية‭).‬

وتتمتع‭ ‬جميع‭ ‬عناصر‭ ‬الثقافة‭ ‬بذات‭ ‬الأهمية،‭ ‬ويفوقها‭ -‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظري‭- ‬عنصر‭ ‬الموروث‭ ‬الشعبي‭ ‬التراثي‭ ‬المادي‭ ‬وغير‭ ‬المادي،‭ ‬الذي‭ ‬يُشكّل‭ ‬جانبا‭ ‬من‭ ‬هويّة‭ ‬الجماعات‭ ‬الثقافية‭ ‬ويمنحها‭ ‬خصوصيتها‭ ‬التي‭ ‬تميّزها‭ ‬عن‭ ‬سواها،‭ ‬لذا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬تجتهد‭ ‬في‭ ‬الاشتغال‭ ‬على‭ ‬حفظ‭ ‬موروثها‭ ‬الشعبي‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬غير‭ ‬المادي‭ ‬منه‭ ‬لأنه‭ ‬العنصر‭ ‬الأكثر‭ ‬قابلية‭ ‬للاندثار‭ ‬باعتباره‭ ‬محفوظاً‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬البشرية‭ ‬المعرضة‭ ‬للنسيان‭ ‬والمحو‭ ‬برحيل‭ ‬حفظته،‭ ‬بجانب‭ ‬تأثير‭ ‬تغير‭ ‬الزمن‭ ‬والناس‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬وتحريف‭ ‬نسخته‭ ‬الأصلية‭ ‬بالنقل‭ ‬غير‭ ‬الصحيح‭ ‬أو‭ ‬الناقص‭ ‬أو‭ ‬الزائد،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تزداد‭ ‬ضرورة‭ ‬الاشتغال‭ ‬على‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الموروث‭ ‬الشعبي‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬المعاصرة‭ ‬نظراً‭ ‬إلى‭ ‬طبيعة‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬تمضي‭ ‬تحت‭ ‬شعار‭ (‬العالم‭ ‬قرية‭ ‬كبيرة‭) ‬حتى‭ ‬نزعت‭ ‬من‭ ‬الأشياء‭ ‬والأماكن‭ ‬خصوصيتها‭ ‬وطعمها‭ ‬ورائحتها‭ ‬فأصبحت‭ ‬متشابهة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭.‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬كفيلة‭ ‬بخلط‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬وتجريدها‭ ‬من‭ ‬معانيها‭ ‬الأصلية‭ ‬ومن‭ ‬خصوصيتها،‭ ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬الحظيظ‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يستطيع‭ ‬الموازنة‭ ‬بين‭ ‬مواكبتها‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬هويته‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬مع‭ ‬الإصرار‭ ‬على‭ ‬الأخيرة‭ ‬لأنها‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬كيانه‭.‬

ومن‭ ‬موروثنا‭ ‬الشعبي‭ ‬المهم‭ ‬تراثنا‭ ‬الشفاهي‭ (‬الحكائي‭) ‬كالحكايات‭ ‬الشعبية،‭ ‬الأمثال‭ ‬الشعبية،‭ ‬الالغاز‭ ‬والأشعار،‭ ‬والتي‭ ‬تكمن‭ ‬أهميتها‭ ‬في‭ ‬كونها‭ ‬قد‭ ‬تخلّقت‭ ‬نتاجاً‭ ‬لتراكم‭ ‬خبرات‭ ‬طويلة‭ ‬وتلاقح‭ ‬ثقافات‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭ ‬المختلفة‭ ‬لتصل‭ ‬إلينا‭ ‬وتنتقل‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬سيأتي‭ ‬بعدنا‭.‬

وتعيدني‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬الموروث‭ ‬الشعبي‭ ‬إلى‭ ‬الحزاوي‭ (‬الحكايات‭ ‬الشعبية‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬والدتي‭ ‬مريم‭ ‬بنت‭ ‬يوسف‭ ‬الكواري‭ ‬من‭ ‬سيدات‭ ‬البحرين‭ ‬اللاتي‭ ‬يمتلكن‭ ‬ذاكرةً‭ ‬ومخزوناً‭ ‬ثريّاً‭ ‬من‭ ‬الحزاوي،‭ ‬وكانت‭ ‬تعشق‭ ‬رواية‭ ‬القصص،‭ ‬وقد‭ ‬اجتهدت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬ولم‭ ‬تبخل‭ ‬بمخزونها‭ ‬القصصي‭ ‬الشعبي،‭ ‬في‭ ‬تزويد‭ ‬بعض‭ ‬الكتاب‭ ‬المتخصصين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬والمعروفين‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الأدبية،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬أسهمت‭ ‬بشكل‭ ‬فاعل‭ ‬في‭ ‬المسح‭ ‬الميداني‭ ‬الذي‭ ‬أجراه‭ ‬مركز‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي‭ ‬لدول‭ ‬الخليج‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬أواسط‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬فقامت‭ ‬بتسجيل‭ ‬هذه‭ ‬القصص‭ ‬على‭ ‬شرائط‭ (‬كاسيتات‭) ‬لمندوبة‭ ‬المركز‭ ‬التي‭ ‬زارتها‭ ‬في‭ ‬المنزل،‭ ‬كما‭ ‬قامت‭ ‬بتسجيل‭ ‬أخرى‭ ‬لاحقة‭ ‬لوزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬ذلك‭ ‬العقد‭ ‬الزمني،‭ ‬وفي‭ ‬الأعوام‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬عمرها‭ ‬القصير،‭ ‬قامت‭ ‬بتدوين‭ ‬جميع‭ ‬القصص‭ ‬التي‭ ‬استحضرتها‭ ‬ذاكرتها‭ ‬على‭ ‬الورق‭ ‬وقامت‭ ‬بتسليمها‭ ‬إلى‭ ‬ابن‭ ‬أختها‭ ‬المبدع‭ ‬أحمد‭ ‬يعقوب‭ ‬المقلة،‭ ‬وطلبت‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يعرضها‭ ‬على‭ ‬الشاعر‭ ‬علي‭ ‬الشرقاوي‭ ‬لعمل‭ ‬سيناريو‭ ‬تمهيداً‭ ‬لتصويرها‭ ‬تلفزيونيا‭.‬

والأمر‭ ‬المستجد‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الموروث‭ ‬الشعبي‭ ‬والذي‭ ‬يستحق‭ ‬الوقوف‭ ‬عنده‭ ‬هو‭ ‬إصدار‭ ‬المبدعة‭ ‬البحرينية‭ ‬هاجر‭ ‬ناصر‭ ‬الفضالة‭ ‬المعنون‭ (‬أمثال‭ ‬بحرينية‭ ‬بخربشات‭ ‬كارتونية‭)‬،‭ ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬الكتاب‭ ‬جميل‭ ‬بكل‭ ‬مضامينه،‭ ‬فقد‭ ‬تناول‭ ‬الأمثال‭ ‬الشعبية‭ ‬البحرينية،‭ ‬والأصل‭ ‬أن‭ ‬تدوين‭ ‬الأمثال‭ ‬ليس‭ ‬بفكرة‭ ‬مسبوقة‭ ‬ولكن‭ ‬الابداع‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬إيجاد‭ ‬منافذ‭ ‬جديدة‭ ‬للولوج‭ ‬إلى‭ ‬الأفكار‭ ‬المطروقة،‭ ‬حيث‭ ‬يكمن‭ ‬إبداع‭ ‬الكاتبة‭ ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬إعادة‭ ‬توثيق‭ ‬هذه‭ ‬الأمثال‭ ‬بطريقة‭ ‬مبتكرة‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة،‭ ‬وقد‭ ‬أسهمت‭ ‬مهارات‭ ‬الكاتبة‭ ‬وتمكّنها‭ ‬من‭ ‬فن‭ ‬الرسم‭ ‬الكارتوني‭ ‬في‭ ‬جعل‭ ‬الكتاب‭ ‬جميلاً‭ ‬شكلاً‭ ‬ومضموناً،‭ ‬إذ‭ ‬تمثّلت‭ ‬كل‭ ‬مثل‭ ‬من‭ ‬الأمثال‭ ‬الشعبية‭ ‬بالرسم‭ ‬الكارتوني‭ ‬وبالشرح‭ ‬كتابة‭ ‬فجمعت‭ ‬بين‭ ‬الصورة‭ ‬والكتابة،‭ ‬وأضفت‭ ‬على‭ ‬إصدارها‭ ‬متعة‭ ‬فكرية‭ ‬وبصرية‭ ‬لجميع‭ ‬الفئات‭ ‬العمرية‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬للأطفال،‭ ‬الذين‭ ‬أعتقد‭ ‬أنهم‭ ‬الفئة‭ ‬الأصلية‭ ‬المستهدفة‭ ‬به،‭ ‬لبلوغ‭ ‬الهدف‭ ‬الأسمى‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الإصدارات،‭ ‬وهو‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الموروث‭ ‬الشعبي‭ ‬ونقله‭ ‬إلى‭ ‬الأجيال‭.. ‬فشكرا‭.. ‬ومبروك‭ ‬للمبدعة‭ ‬هاجر‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الإصدار‭ ‬المميز‭. ‬

والأكيد‭ ‬أن‭ ‬البحرين‭ ‬ولاّدة‭ ‬للإبداع‭ ‬والمبدعين،‭ ‬وأن‭ ‬قلوب‭ ‬أبنائها‭ ‬المبدعين‭ ‬سياج‭ ‬حصين‭ ‬يحفظها‭ ‬ويحميها‭ ‬و‭(‬يشيلها‭ ‬بالورد‭ ‬ويحطها‭ ‬بالياسمين‭)‬،‭ ‬وأختم‭ ‬بتوجيه‭ ‬رسالة‭ ‬إلى‭ ‬أصحاب‭ ‬القرار‭ ‬بأن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نأمله‭ ‬هو‭ ‬احتواء‭ ‬المبدعين‭ ‬والمبدعات‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬المجالات‭ ‬الانسانية،‭ ‬وتفعيل‭ ‬فكرة‭ ‬تفريغ‭ ‬المبدع‭ ‬للعمل‭ ‬الإبداعي‭ ‬حتى‭ ‬يكون‭ ‬هو‭ ‬شغله‭ ‬الشاغل،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يضيع‭ ‬الإبداع‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬ركض‭ ‬المبدع‭ ‬وراء‭ ‬كسب‭ ‬معيشته‭. ‬

 

Hanadi‭_‬aljowder@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا