لقد فقدت مملكة البحرين برحيل المفكر العربي الكبير الدكتور محمد جابر الأنصاري اسما مضيئاً في عالم الثقافة العربية، فهو يعتبر واحداً من المفكرين العرب الذين حملوا مشروعاً نقديّاً للفكر العربي المتطلع إلى تجديد المشروع النهضوي العربي، وهو قامة ثقافية سامقة، ورمز مبدع في الحراك الأدبي والثقافي في البحرين كأحد المثقفين الذين أثروا هذا الحراك باهتماماته وكتاباته منذ الستينيات ومتابعته نتاج الأدب الجديد في ذلك الوقت والكتابة عنه في الصحافة المحلية لما كان يستشعره - رحمة الله عليه - من دور كبير للأدب في التنمية الثقافية في المجتمع.
كانت مقالاته التي ينشرها في جريدة الأضواء تهتم برصد التجربة الأدبية الشابة التي بدأت تلفت الأنظار اليها سواء في فضاء الشعر او السرد او المقالات الأدبية. ففي فترة منتصف الستينيات بدأت تبرز اتجاهات وتجارب جديدة في كتابة قصيدة الشعر الحديثة لغة وموضوعاً وصياغة تختلف في مضامينها وتوجهاتها عن قصائد الشعراء الرموز الذين كانوا يتسيدون الساحة الأدبية في ذلك الوقت، وكذلك في مجال كتابة القصة القصيرة.
أما على المستوى الشخصي فأنا أعرف الراحل العزيز الدكتور محمد جابر الأنصاري قبل بدايات تأسيس أسرة الأدباء والكتاب عام 1969 حيث كان يسكن شمال مدينة المحرق «فريج الغاوي» وأنا أسكن «فريج المري»، فكلانا من هذه المدينة العريقة وأحياؤنا متقاربة.. كان شعلة من النشاط والحيوية والاهتمامات الأدبية.. وكنا نلتقي بين الفينة والأخرى حتى التقينا في منزله مع مجموعة من مؤسسي الأسرة منهم «علي عبدالله خليفة، قاسم حداد، أحمد المناعي، خليفة العريفي، محمد الماجد» للتباحث حول فكرة تأسيس كيان أدبي للأدباء الشباب الذين كنا نمثلهم في ذلك الوقت، فوجدنا المساندة والدعم الكبير من الدكتور محمد جابر الأنصاري الذي سعى لدى الجهات الرسمية عندما كان رئيساً للإعلام وعضواً في مجلس الدولة لتذليل صعوبات الحصول على الترخيص الرسمي، فتم اختياره كأول رئيس لأسرة الأدباء والكتاب حيث ساهم بأفكاره في رسم ملامح هذا الكيان الأدبي الجديد وتحديد توجهاته، فقد كان الوحيد بيننا في ذلك الوقت الحاصل على درجة الماجستير في الأدب الأندلسي عام 1966 من الجامعة الأمريكية ببيروت، ويبشر ببروز ناقد بحريني في مجال الأدب يتسم بالكفاءة الأكاديمية والعلمية التي تفتح له آفاقاً من الدراسات والبحوث التي كان يحتاج إليها الحراك الأدبي الشاب والنشط في تلك الفترة. فكان اختيار الشعار الذي توافق عليه جميع المؤسسين ومازالت أسرة الأدباء والكتاب تفخر به لأكثر من نصف قرن من الزمن وهو «الكلمة من أجل الإنسان».
بدأ الدكتور الأنصاري يهتم بالجانب الثقافي والحضاري والاجتماعي للبحرين ومنطقة الخليج العربي ويرصد التحولات التي كان يعيشها لأنه المدخل السليم لفهم المجتمعات ودراسة احتمالات سلوكها وتطورها. فأصدر كتابه القيم «لمحات من الخليج العربي» في ابريل عام 1970 وهي دراسات في تاريخ الخليج العربي وثقافته ورجاله وفولكلوره الشعبي. وفي رأي المتواضع أن هذا الكتاب هو بداية اهتمام الدكتور الأنصاري بدراسة الجوانب الاجتماعية والفكرية للمجتمع الخليجي والتي تطورت بعد ذلك الى الاهتمام بالوطن العربي وتحولاته الفكرية والتي انطلق منها مشروعه الفكري والنهضوي.
وعلى الجانب الآخر كان هناك هاجس ما يمكن قراءته من خلال مقالات الدكتور الأنصاري التي كان ينشرها في الصحافة.. هاجس يتوارى خلف الكلمات والعبارات أبعد من مجرد النقد الأدبي أو الشأن الثقافي، بدأه بالاهتمام بالشئون السياسية، وهو بوابة جديدة على عالم أوسع من الكتابة النقدية، حيث الفضاء الرحب للتحليل والربط بين المعطيات والخروج بتصورات وسيناريوهات تقترب من العقل والفكر أكثر من اقترابها من الأدب، بدأها بالكتابة في الصحف والدوريات الخليجية والعربية. وفي رأي الشخصي أن مفتاح هذه البوابة كان دراسته للدكتوراه في مجال قابل للجدل واختلاف وجهات النظر والشروع في البحث عن أرضية مغايرة، حيث كان موضوع أطروحته للدكتوراه في عام 1979 من الجامعة الأمريكية في بيروت هو «الفلسفة الإسلامية الحديثة والمعاصرة» حيث بدأ منها رحلة جديدة من الاشتغال على مشروع فكري خاص به يهتم بنقد الفكر والواقع العربي، فقام بتحليل المجتمعات العربية والإسلامية ودراسة الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تسود المجتمعات العربية عبر كتابه «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي، 1930-1970»، الذي صدر في الكويت عام 1980، ثم توالت الدراسات والبحوث في هذا الاتجاه الفكري والنقدي.
ويمكن تلخيص مشروع الدكتور الأنصاري في اتجاهين فكريين هما: نقد الفكر العربي ونشر في ذلك عدة كتب لعل أهمها «مساءلة الهزيمة: جديد الفكر العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية»، ثم مشروع نقد الواقع العربي ولعل أهم المؤلفات التي نشرها عن هذا المشروع كتاب «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القُطرية» وفي كلا المشروعين تميّز الدكتور الأنصاري بمنهج بحثي يعتمد على التحليل العلمي الرصين عميق الدلالات والاستشهادات، قوي الحجج والمقارنات، ما مكّن مشروعه من الانتشار على مستوى الوطن العربي وأثار جدلاً فكريّاً واسعاً بين المؤيدين له والمعارضين من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية.
إن الراحل الكبير والمفكر العربي الدكتور محمد جابر الانصاري هو رحلة طويلة من العمر امتدت الى أكثر من نصف قرن، رسمت خيوطها اشعاعاً ونوراً أدبيّاً وثقافيّاً وفكريّاً، سافر من هذه الجزيرة المضيئة والساحرة البحرين الى كافة أرجاء الوطن العربي ليسهم مع غيره من المفكرين العرب في إضاءة جوانب الحياة الفكرية ويعطي إجابات مقنعة للعديد من الأسئلة الشائكة.. فوضع البحرين على خارطة المفكرين العرب المتطلعين الى تجديد المشروع النهضوي من خلال كتاباتهم في نقد الفكر العربي السائد.
رحمك الله رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته، وألهمنا جميعاً الصبر والسلوان.. فبرحيلك تفقد البحرين والعالم العربي رجلاً مثقفاً ومفكراً مميزاً أثرى بكتاباته جوانب كثيرة من حياتنا الأدبية والثقافية والفكرية.. فالمفكرون يرحلون، ولكن يبقى فكرهم حاضراً بيننا.
رئيس أسرة الأدباء والكتاب
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك