تعد الريادة البحرينية في حوارات الأديان، واحدة من أبرز تجليات القوة الناعمة لمملكة البحرين، والتي حرصت على تعزيزها، انطلاقًا من إدراكها أن هذه الحوارات تضيق من مجالات الاختلاف، وتوسع مجالات الاتفاق، وصولاً إلى نزع فتيل التوتر، الذي يفضي إليه التعصب الديني والمذهبي، وما يمثله من تهديد للأمن والسلام المجتمعي.
وتُبنى هذه الريادة على ما تمتعت به البحرين، تاريخيًا من احترام للحريات الدينية، وحرية الأفراد في ممارسة شعائرهم الدينية، وهو ما كفله دستورها، ونظمته تشريعاتها. ومن بين دور العبادة، عرفت المملكة إلى جانب المساجد (1337 مسجدا)؛ المآتم (634 مأتما)، والكنائس (19 كنيسة)، والكنيس اليهودي، والمعابد البوذية والهندوسية، ووفرت الحكومة لأتباع الديانات والمذاهب المختلفة المساحات التي تقام عليها تلك المعابد.
وفي هذا السياق، استضافت البحرين، برعاية جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وبحضور الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، رئيس مجلس حكماء المسلمين؛ مؤتمر الحوار الإسلامي، يومي 19 و20 فبراير2025، بمشاركة أكثر من 400 شخصية من العلماء والمرجعيات الإسلامية والمفكرين والمثقفين من مختلف أنحاء العالم.
ويأتي انعقاد هذا المؤتمر، استجابة لدعوة شيخ الأزهر خلال ملتقى البحرين للحوار، في نوفمبر 2022، التي شددت على ضرورة تعزيز وحدة الأمة الإسلامية، وتسليط الضوء على القواسم المشتركة بين مذاهبها، وتحفيز الحوار البنّاء فيما بينها. ويهدف المؤتمر، إلى لمّ شمل المسلمين بمختلف أطيافهم، وإبراز مساحات الاتفاق الواسعة بينهم، إلى جانب تعزيز دور العلماء والمرجعيات الدينية في معالجة الخلافات، والتصدي لخطاب الكراهية، وترسيخ قيم التفاهم والاحترام المتبادل، كما يسعى إلى تجديد الفكر الإسلامي لمواجهة التحديات الراهنة وأسباب الفرقة والنزاع، التي استغلها البعض لإحداث الانقسامات داخل الأمة الإسلامية، وإبعادها عن مواجهة التحديات الحقيقية. ومن هنا، جاء اختيار عنوان المؤتمر أمة واحدة ومصير مشترك، تأكيدًا لأهمية التكاتف لمجابهة التحديات المشتركة، وتعزيز وحدة الصف الإسلامي.
ولدى زيارتها الرسمية للبحرين في يناير2025؛ أكدت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، أن المملكة تعد نموذجًا رائدًا، لتعزيز الحوار بين الأديان والثقافات، مشيدة بدورها في ترسيخ مبادئ التعايش السلمي والحوار الحضاري، وأن استقبالها لبابا الفاتيكان فرنسيس، في عام 2022، يعكس التزامها الراسخ، بتعزيز التفاهم بين مختلف الأديان والثقافات. وجاءت هذه الزيارة في إطار جهود المملكة لتعزيز التواصل الإنساني، وترسيخ الحوار الحضاري بين الأديان؛ مما يؤكد مكانتها كمركز عالمي للحوار الثقافي والتعايش السلمي. وقد شارك البابا، في نوفمبر 2022 في ملتقى للحوار جمع قادة الأديان، ورموز الفكر، والثقافة تحت عنوان الشرق والغرب.. من أجل دعم الإخوة الإنسانية والتعايش بين الجميع، وذلك تأكيدًا لأهمية بناء جسور التفاهم، وتعزيز قيم السلام المشترك.
وفي اليوم الأول لهذا الملتقى، أعلنت البحرين إنشاء جائزة الملك حمد الدولية للحوار والتعايش السلمي -والتي صدر بها بعد ذلك الأمر الملكي رقم 32 لسنة 2024- وكان هذا الملتقى قد انعقد برعاية كريمة من جلالة الملك، وبتنظيم من مجلس حكماء المسلمين، بالتعاون مع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، بالمملكة، ومركز الملك حمد للتعايش السلمي، بمشاركة وحضور أكثر من 200 شخصية من رموز وقادة ممثلي الأديان حول العالم، إضافة إلى شخصيات فكرية، وإعلامية بارزة، في إطار اهتمام المملكة بتعلية قيم الحوار وقبول الآخر والتسامح والعيش المشترك، ونبذ كل أشكال التطرف والعنصرية والتمييز بين البشر. وكان من بين مخرجات هذا الملتقى، تكوين اللجنة الدائمة للحوار الإسلامي المسيحي بين مجلس حكماء المسلمين والفاتيكان، والتي استضافت المملكة الاجتماع الأول لها في مايو 2023.
ويلفت انعقاد مؤتمر الحوار الإسلامي الإسلامي، إلى سلسلة طويلة من الفعاليات على خطى حوارات الأديان، شاركت فيها المملكة، أو بادرت إليها أو احتضنتها، حيث كانت داعمة لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، تسمية عام 2001 عامًا للحوار بين الحضارات، واعتماد برنامج عالمي للحوار بين الحضارات في العام ذاته، وأبدت استعدادها لاستضافة أمانة عامة لحوار الأديان والثقافات ليكون مقرها البحرين، ودعا جلالة الملك، إلى تبني إعلان عالمي من قبل الأمم المتحدة، يعزز دور الأديان في إرساء السلام والعدالة والحرية في العالم.
وفي مارس 2002، استضافت البحرين، ندوة حوار الحضارات بين العالم الإسلامي واليابان، برعاية الممثل الخاص لجلالة الملك وزير الخارجية الأسبق سمو الشيخ محمد بن مبارك؛ بهدف تشجيع الحوار الحضاري البناء بين المفكرين الإسلاميين واليابانيين، وترسيخ أواصر التفاهم بين الدول العربية والإسلامية واليابان. وفي أكتوبر من نفس العام، استضافت مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي، في دورته العاشرة، بحضور عشرات من علماء الدين الإسلامي والمسيحي، والذي أكد أنه لا يجوز اتخاذ الدين ستارًا أو مبررًا لسلب الممتلكات، أو الاعتداء على الأرواح والمقدسات، خاصة مقدسات المسلمين والمسيحيين في القدس الشريف، والأماكن الأخرى في العالم.
وقد تَوَّج المؤتمر، أعماله بإصدار إعلان المنامة، الذي دعا إلى ترسيخ قيم الحوار سبيلاً إلى تحقيق التعايش السلمي ونبذ العنف، وتبادل وجهات النظر بما يخدم الإنسانية، ويحقق أمن وسعادة البشرية، ويجنبها مخاطر الصدام والصراع، ودعا السلطات إلى التصدي لمعالجة العنف بالحوار البناء، وليس بالقمع والقسوة. وكان هذا المؤتمر قد انعقد تحت شعار دور الأديان في تحقيق التعايش السلمي في المجتمعات المعاصرة.
وفي سبتمبر 2003، احتضنت المملكة، مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية، الذي دعا إلى التمسك بالوحدة بين الجميع، بصرف النظر عن انتماءاتهم المذهبية والعرقية، لمواجهة محاولات زرع الفتن الطائفية، وضرب كيان المجتمع وتمزيق أوصاله. ودعت التوصيات التي أصدرها المؤتمر -الذي ضم 110 من علماء الدين المنتمين إلى سبعة مذاهب إسلامية ما بين سنة وشيعة- إلى العمل على تطوير الخطاب الإسلامي، كي يصبح خطابًا وسطيًا، والتزام الوسطية والاعتدال بعيدًا عن التعصب، وتبني منهج وسطي في إعداد الكتب والمؤلفات، بحيث تخلو من التشهير والتجريح، وكل ما يثير الفتن ويدعو إلى الخلاف بين المسلمين.
وفي يناير 2008، كان منتدى البحرين الأول لحوار الحضارات، بمشاركة أكثر من 400 شخصية ينتمون لـ 60 بلدًا في آسيا وأوروبا، حيث دعا المشاركون إلى نبذ العنف والقمع، والتحلي بروح التسامح والصبر والقبول بالتنوع الثقافي، وناقش المنتدى أهمية الحوار بين الشعوب، والتقارب بين الأديان، والاقتصاد الإسلامي وعلاقته بالتجارة الدولية. وفي يوليو من العام نفسه، التقى جلالة الملك، البابا بندكت السادس عشر في مقر قداسته، لدى زيارة الملك الرسمية لإيطاليا، حيث أكد أهمية مد جسور التفاهم والتعايش، وتأكيد القيم الإنسانية المشتركة. وفي نوفمبر من العام ذاته، شارك جلالة الملك، في اجتماع بمقر الأمم المتحدة بنيويورك، الذي نظم بمبادرة من الملك عبدالله بن عبدالعزيز، تحت عنوان ثقافة السلام والحوار بين الأديان والثقافات.
علاوة على ذلك، استضافت المملكة في مايو 2014، فعاليات مؤتمر حوار الحضارات والثقافات، الهادف إلى تأكيد مبدأ التسامح واحترام التنوع الديني والثقافي، وتعزيز التعايش السلمي، بمشاركة أكثر من 150 شخصية دينية وثقافية من جميع الديانات والثقافات. وجاء هذا المؤتمر، امتدادًا لمؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي في 2002، ومؤتمر الحوار الإسلامي الإسلامي في 2003.
وفي نوفمبر 2016، وقعت البحرين، اتفاقية مع جامعة سابنزا، الإيطالية، تقضي بتمويلها كرسي باسم جلالة الملك في الجامعة، لتدريس الحوار والسلام والتعايش بين الأديان، وهي من أفضل وأعرق الجامعات الإيطالية؛ ما يسهم في تدريس القيم النبيلة التي تنادي بها المملكة، خاصة التقريب بين الأديان والمذاهب، كما شهدت مدينة لوس أنجلوس، الأمريكية في 2017، إعلان مملكة البحرين للحوار بين الأديان والتعايش السلمي.
وفي عام 2018، دشن جلالة الملك، بالأمر الملكي رقم 15 لسنة 2018، مركز الملك حمد للتعايش السلمي، كمركز رائد على مستوى العالم؛ يهدف إلى تعزيز الحرية الدينية، والحوار بين الأديان، والتعايش السلمي والتنوع الإنساني، ومكافحة الإرهاب والتطرف والعنف والكراهية. ومنذ تأسيسه، تعددت أنشطته، ما بين برامج ومبادرات ودورات، تترجم رؤية الملك، كتأسيس مركز الملك حمد للسلام السيبراني، لتعزيز التسامح والتعايش بين الشباب في مدينة نيويورك، وإطلاق وسام الملك حمد للتعايش السلمي، لتكريم خيرة الشخصيات والمنظمات العالمية الداعمة للقيم الإنسانية.
بالإضافة إلى ذلك، فتح المركز، قنوات تعاون مع أعرق الجامعات العالمية؛ بهدف إعداد جيل من الشباب القادة يؤمن بالتعايش والتسامح وقبول الآخر. وفي عام 2024، تم تخريج الدفعة الأولى من المركز في دبلوم التعايش السلمي، بالتعاون مع جامعة الأمم المتحدة للسلام، كما كان من بين مبادراته، تدشين برنامج الملك حمد للقيادة في التعايش السلمي، بالشراكة مع جامعة أكسفورد، في المملكة المتحدة، لإعداد جيل من القادة البحرينيين من الشباب المؤهلين لنشر ثقافة السلام. ومن أحدث فعاليات المركز، الندوة التي نظمها بالتعاون مع وزارة الداخلية، وهيئة المعلومات والحكومة الإلكترونية، حول الحماية في العالم الرقمي، بمشاركة واسعة من ممثلي مختلف الأديان والطوائف والمجتمع المدني وخبراء في الأمن السيبراني والتحول الرقمي.
وإضافة إلى احتضانها العديد من فعاليات حوارات الأديان، ومبادراتها في تعزيز هذا الحوار، ظلت المملكة، حريصة على المشاركة في هذه الحوارات، التي تبادر إليها دول أخرى، مقدمة رؤيتها في هذا الشأن، إدراكًا منها أن الحوار هو السبيل الأمثل لمعالجة قضايا العالم المختلفة، وهو يفضي إلى التعاون والأخوة الإنسانية، كما كرست في عمليات التنشئة، سواء في المؤسسات التعليمية أو المنشآت الشبابية، مناهج التربية على قيم التسامح والتعايش وقبول الآخر.
وعليه، لم يكن غريبًا أن يكون هناك إجماع من قبل المشاركين في حوار الشرق والغرب، أن البحرين، تمثل نموذجا فريدا في التعايش والحوار بين الأديان والثقافات، وهو الحوار الذي يرسخ صوت العقل والحكمة والرشادة، ويجعل من التنوع مصدر إثراء، ويعلي الاتفاق ويقلل من شأن الاختلاف.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك