مفهوم ومواصفات الطعام «الصحي» والغذاء المفيد للإنسان أصبح الآن يتغير ويعدل مع الوقت بين فترة زمنية وأخرى، كما هو الحال على سبيل المثال لا الحصر بالنسبة إلى معايير مكونات البيئة، ومياه الشرب، و«الجَمَال»، والموضة، التي تُقدمها لنا الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، فتضعها في علبٍ مغلقة جاهزة، وتصدرها إلى دولنا، فنقوم بفتحها واستخدامها من دون أن نُجري عليها أي تغيير، أو بعض التبديل لتتناسب مع ظروف وأحوال بلادنا، وتتوافق مع ثقافتنا، وعاداتنا وتقاليدنا.
فنموذج ومفهوم الطعام «الصحي» والتعريف الموضوعي والمُعتمد له لبيان اشتراطاته ومعاييره، يختلف الآن عَمَّا كان عليه قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وبالتحديد منذ عام 1994، حيث تم وضع المعايير الخاصة بالغذاء الصحي لأول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية. ويعزى السبب أولاً في التغييرات الجذرية التي طرأت على العادات والسلوكيات الغذائية للشعوب الغربية، وابتعادها بشكلٍ عام عن العادات الصحية السليمة إلى العادات السيئة الضارة، من حيث عدم تناول الطعام الطبيعي الفطري المستخلص مباشرة من تربة الأرض من دون تدخل الإنسان في تركيبها، كالخضراوات والفواكه، أو من الحيوانات، والتوجه نحو أنواع الغذاء المجمدة والمعلبة والجاهزة التي تُنتج في المصانع، أو تناول الوجبات السريعة المتوافرة في كل المطاعم الصغيرة والكبيرة. فثقافة وعادات شعوب الغرب اليومية في تناول الوجبات من الناحيتين النوعية والكمية أصبحت استهلاكية سريعة وغير صحية، وتعتمد بشكلٍ كبير على المعلبات الجاهزة والمجمدة والمخزنة لفترة طويلة في علب معدنية، لا يعلم إلا الله ما بداخلها من مواد كيميائية، ومضافات، وألوان ونكهات لا تعد ولا تحصى للحفاظ على جودتها، ولونها، ورائحتها، وإطالة عمرها وفترة صلاحيتها للإنسان. وعلاوة على ذلك فقد تغيرت أنماط حياة الإنسان وممارساته اليومية، فأصبح قليل النشاط والحركة، وكثير الجلوس لساعات طويلة من اليوم أمام التلفاز، والهاتف النقال مع وسائل التواصل الاجتماعي، وألعاب الفيديو، والحاسب الآلي.
كما تغير مصطلح الغذاء أو المنتج الغذائي «الصحي» لسببْ ثانٍ وهو أن المفهوم القديم لم يكن مستداماً وحامياً لصحة الإنسان، بل أدى إلى انكشاف أمراضٍ وأسقام عصرية مزمنة انتشرت وتفاقمت على نطاق واسع أولاً في الدول الغربية، ثم انتقلت عدواها إلينا، مثل مرض السكري من النوع الثاني، وأمراض القلب كارتفاع ضغط الدم، والوزن الزائد والبدانة، وبعض أنواع السرطان. وقد أكدت آخر دراسة دولية أُجريت في 184 دولة ونُشرت في مجلة (Nature Medicine) في 6 يناير 2025 أن المشروبات الغازية التي يضاف إليها السكر تسبب معظم أمراض السكري من النوع الثاني، إضافة إلى الوزن الزائد والبدانة، وأمراض القلب، مما يؤكد بأن تعريف مصطلح المنتج «الصحي» القديم لم يحم صحة الإنسان من تهديدات المنتجات الغذائية التي كانت تدعي بأنها صحية.
ولذلك مع تغير السلوكيات والعادات والأنماط الغذائية مع الزمن وظهور الأمراض المزمنة المرتبطة بها، تغيرت تبعاً لها مواصفات الطعام «الصحي» الذي من المفروض أن يقوي الإنسان، ويمنع عنه شر السقوط في الأسقام، فاضطر العلماء والجهات الغذائية المعنية إلى مواكبة هذه التغيرات، وملاحقة السلوكيات الاستهلاكية الجديدة التي تعوّد عليها الإنسان من أجل تقويمها، وتصحيحها، وجعلها صحية، وسليمة، وآمنة لاستقامة حياة البشر، وخاصة الإنسان الغربي، وبالتحديد في الولايات المتحدة الأمريكية. كما قامت هذه الجهات بتحديد وتعريف اشتراطات ومعايير الطعام والغذاء الصحي الذي يحتوي على كل ما يحتاج إليه جسم الإنسان من بروتينات، ومعادن، وفيتامينات، وألياف، من دون وجود مضافات كالسكر والدهون، أو ملوثات كيميائية تسبب الأمراض والعلل.
وفي الوقت نفسه كان لا بد من هذه المعايير أن تتناسب وتتماشى مع ضغوط الشركات الكبرى المنتجة للمواد الغذائية الجاهزة والمعلبة والمجمدة، إضافة إلى المواد الغذائية التي تضاف إليها المواد الكيميائية لحفظها، وتحسين لونها وجودتها؛ أي أن هذه المواصفات الغذائية الجديدة يجب أن تكون «توافقية»، فهي إذن لا تأخذ كلياً البعد والجانب العلمي والصحي فقط عند وضعها، وإنما تأخذ في الاعتبار أيضاً احتياجات واهتمامات وظروف الشركات المصنعة للغذاء، والضغوط الشديدة السياسية والتشريعية والاقتصادية التي تمارسها على الجهات المعنية بتصنيف الطعام والغذاء، علماً بأن المواصفات والمعايير بشكلٍ عام تخضع لمثل هذه الإجراءات في جميع القطاعات، حيث ضغط الشركات المعنية والعامل الاقتصادي يلعبان دوراً رئيساً في الصياغة النهائية لهذه المواصفات.
ولذلك نَشرت «إدارة الغذاء والدواء» الأمريكية في 27 ديسمبر 2024 إعلانها الثاني المعدل حول تعريف واشتراطات المنتج الغذائي «الصحي»، وجاء تحت عنوان: «المحتوى الغذائي لوضع العلامات على المواد الغذائية، المطالبة: تعريف مصطلح صحي. وقد جاء هذا الإعلان استناداً إلى وثيقة رسمية نُشرت في سبتمبر 2022 عنوانها: «استراتيجية البيت الأبيض القومية حول الجوع، والغذاء، والصحة»، وهذه الوثيقة الحكومية تدعو إلى الغذاء الصحي المستدام جنباً إلى جنب مع ممارسة الرياضة، إضافة إلى توصيات اللجنة الاستشارية لإدارة الغذاء والدواء حول «الإرشادات الغذائية» للفترة من 2020 إلى 2025.
وهذه الوثيقة المطورة والمحدثة تشترط عاملين رئيسيين لكي ينال المنتج الغذائي علامة «صحي»، ويُسمح للمصانع الادعاء بأن مُنتجهم «صحي». أما الأول فهو احتواء هذا المنتج الغذائي الصحي على كمية محددة من أحد أنواع الغذاء الأساسية التي يحتاج إليها الإنسان مثل الخضراوات، والفواكه، والألبان، والحبوب الكاملة، وأن يكون خالياً من الدهون، أو منخفضة الدهون. والثاني فهو معرفة كمية وتركيز المواد الموجودة في المنتج مثل الدهون المشبعة، والصوديوم، والسكر المضاف.
وجدير بالذكر أن هذه التعديلات على المنتجات الغذائية التي ستُباع في الأسواق الأمريكية والعالمية سيبدأ تنفيذها في 25 فبراير 2025، ولكن هذه الفترة ستطول كثيراً بالنسبة إلى المصانع والشركات المنتجة، فعليها الالتزام بها بحلول 25 فبراير 2028، مما يعني أن الكثير من المنتجات الغذائية الأمريكية التي تسببت في إصابة الملايين من الناس في أمريكا وحول العالم بالأمراض المزمنة والقاتلة طوال العقود الماضية ستكون موجودة في أسواقنا وبراداتنا لأكثر من ثلاث سنوات قادمة، وستستمر في إفساد صحة البشر، وتعريضهم للأمراض والعلل المستعصية على العلاج.
ومما سبق أستطيع أن أُقدم لكم الاستنتاجات التالية:
أولاً: نوعية وكمية المنتج الغذائي «الصحي» لها علاقة بممارسات وسلوكيات الإنسان اليومية، ونوعية وظيفته والأعمال التي يقوم بها، فنوعية الوجبات الصحية للعامل في الميدان تختلف عن الإداري قليل الحركة وهو جالس أمام جهاز الكمبيوتر، كما أن الطعام «الصحي» لمن يمارس أحد أنواع الرياضة تختلف من رياضة إلى أخرى، كما أنها تختلف عن غيرهم من الناس.
ثانياً: المواصفات عامة في جميع القطاعات تتغير مع الزمن استناداً إلى آخر المعلومات العلمية، كما أنها في الوقت نفسه لا تخضع فقط للجانب العلمي البحت، وإنما تدخل في تصميمها ووضعها عوامل أخرى مثل العامل الاقتصادي والسياسي والعملي.
ثالثاً: هناك مئات المواد كيميائية التي تضاف إلى المنتج الغذائي لأسباب مختلفة، وهذه المواد في تقديري كلها ضارة ويجب تجنبها كلياً، أي تجنب شراء المجمدات والمعلبات والمنتجات الغذائية التي تمت معالجتها، والتحول نحو المنتجات الطازجة التي لا تحتوي على أي مضافات.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك