العدد : ١٧٠٩٤ - الجمعة ١٠ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٠ رجب ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٩٤ - الجمعة ١٠ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٠ رجب ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

صديقي بهاء حبيب الخواجات

حتى‭ ‬حكوماتنا‭ ‬مصابة‭ ‬بعقدة‭ ‬الأجنبي،‭ ‬فما‭ ‬من‭ ‬مشروع‭ ‬كبير‭ ‬ومهم،‭ ‬إلا‭ ‬وجلبت‭ ‬له‭ ‬خبراء‭ ‬أجانب،‭ ‬وأهم‭ ‬شروط‭ ‬الخبرة‭ ‬هنا‭ ‬لون‭ ‬البشرة‭ ‬‮«‬الفاتح‮»‬‭ ‬جدا،‭ ‬وكان‭ ‬صديقي‭ ‬بهاء‭ ‬الدين‭ ‬ميم‭ ‬مصابا‭ ‬بتلك‭ ‬العقدة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يسافر‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬طائرة‭ ‬يقودها‭ ‬شخص‭ ‬عربي‭. ‬وبهاء‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬فتح‭ ‬عيونه‭ ‬على‭ ‬الدنيا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الاستعمار‭ ‬البريطاني‭ ‬للسودان،‭ ‬ونشأ‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬كان‭ ‬البريطانيون‭ ‬يسيّـرون‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬وحتى‭ ‬بعد‭ ‬نهاية‭ ‬الحقبة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬كانت‭ ‬جميع‭ ‬شركات‭ ‬الطيران‭ ‬العربية‭ ‬تقريبا‭ ‬تستعين‭ ‬بقباطنة‭ ‬بريطانيين‭. ‬وفي‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬بدأ‭ ‬توطين‭ ‬وتعريب‭ ‬مهنة‭ ‬قيادة‭ ‬الطائرات،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬يروق‭ ‬لبهاء‭. ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬ركب‭ ‬طائرة‭ ‬سودانية‭ ‬من‭ ‬لندن‭ ‬الى‭ ‬الخرطوم‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬استفسر‭ ‬عن‭ ‬اسم‭ ‬القبطان‭ ‬فقالوا‭ ‬له‭ ‬إنه‭ ‬مستر‭ ‬دوغلاس‭. ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬أقلعت‭ ‬الطائرة‭ ‬حتى‭ ‬حيا‭ ‬الكابتن‭ ‬المسافرين‭: ‬كابتن‭ ‬محمود‭.... ‬يحييكم‭ ‬ويرحب‭ ‬بكم‭.. ‬ولكن‭ ‬صوت‭ ‬الكابتن‭ ‬ضاع‭ ‬وسط‭ ‬صيحات‭ ‬بهاء‭ ‬المرتجفة‭: ‬يا‭ ‬أولاد‭ ‬ال‭... ‬كابتن‭ ‬مين؟‭ ‬دا‭ ‬مش‭ ‬مفروض‭ ‬يسوق‭ ‬تاكسي‭.. ‬أعيدوا‭ ‬الطائرة‭ ‬الى‭ ‬الأرض‭.. ‬هذه‭ ‬مؤامرة‭.. ‬ونجح‭ ‬الركاب‭ ‬في‭ ‬تهدئته‭ ‬فأغمض‭ ‬عينيه‭ ‬وطفق‭ ‬يردد‭ ‬الشهادتين،‭ ‬ويقرأ‭ ‬‮«‬يس‮»‬‭.. ‬ثم‭ ‬ينهار‭ ‬مجددا‭ ‬عندما‭ ‬يتذكر‭ ‬عياله‭: ‬الله‭ ‬يحفظكم‭.. ‬أصبحتم‭ ‬يتامى‭ ‬وعودكم‭ ‬طري‭ ‬أخضر‭. ‬وبعد‭ ‬قليل‭ ‬رأى‭ ‬بهاء‭ ‬كابتن‭ ‬محمود‭ ‬ذاك‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬ممر‭ ‬الطائرة‭ ‬محييا‭ ‬الركاب‭ ‬فانتفض‭ ‬واقفا‭: ‬شوفوا‭ ‬الاستهتار‭. ‬سايب‭ ‬الطيارة‭ ‬تمشي‭ ‬على‭ ‬كيفها‭ ‬وجاي‭ ‬يتمخطر‭ ‬وسطنا‭. ‬ارجع‭ ‬الكابينة‭ ‬يا‭ ‬صعلوك‭ ‬يا‭ ‬مستهتر‭. ‬وكان‭ ‬الكابتن‭ ‬يعرف‭ ‬بأمر‭ ‬بهاء‭ ‬وتوجه‭ ‬نحوه،‭ ‬وقال‭ ‬له‭ ‬ان‭ ‬الطائرة‭ ‬تحت‭ ‬سيطرة‭ ‬‮«‬الأوتو‭ ‬بايلوت‮»‬‭ ‬أي‭ ‬النظام‭/ ‬الطيار‭ ‬الآلي،‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬بهاء‭ ‬يروح‭ ‬في‭ ‬غيبوبة‭ ‬لم‭ ‬يفق‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الرحلة‭ ‬عندما‭ ‬‮«‬أنعشوه‮»‬‭ ‬وتأكد‭ ‬له‭ ‬انه‭ ‬‮«‬حي‮»‬‭! ‬وفي‭ ‬مرة‭ ‬ثانية‭ ‬كان‭ ‬بهاء‭ ‬قد‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬ورتب‭ ‬أموره‭ ‬مع‭ ‬الجهة‭ ‬المنظمة‭ ‬للمؤتمر،‭ ‬على‭ ‬العودة‭ ‬بالتوجه‭ ‬الى‭ ‬القاهرة‭ ‬على‭ ‬طيران‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬جميع‭ ‬طواقمه‭ ‬أوروبية،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يسافر‭ ‬من‭ ‬القاهرة‭ ‬الى‭ ‬الخرطوم‭ ‬على‭ ‬الخطوط‭ ‬البريطانية‭. ‬وحلقت‭ ‬الطائرة‭ ‬ببهاء‭ ‬من‭ ‬مطار‭ ‬بيروت‭. ‬وجاءه‭ ‬صوت‭ ‬من‭ ‬المايكروفون‭ ‬الداخلي‭: ‬كابتن‭ ‬عويس‭ ‬يحييكم‭.. ‬صدرت‭ ‬عن‭ ‬بهاء‭ ‬صرخة‭ ‬تحنن‭ ‬قلب‭ ‬الكافر،‭ ‬وبدأ‭ ‬يبكي‭ ‬ويهذي‭. ‬حسب‭ ‬المسكين‭ ‬ان‭ ‬عويس‭ ‬هذا‭ ‬اختطف‭ ‬الطائرة‭. ‬ولكن‭ ‬بعض‭ ‬الركاب‭ ‬‮«‬طمأنوه‮»‬‭ ‬بأن‭ ‬عويس‭ ‬هو‭ ‬قائد‭ ‬الطائرة‭ ‬فقال‭ ‬لهم‭: ‬إزاي‭ ‬واحد‭ ‬اسمه‭ ‬عويس‭ ‬يقود‭ ‬طائرة؟‭ ‬فجاءه‭ ‬الرد‭: ‬يا‭ ‬بجاحتك‭ ‬يا‭ ‬أخي‭. ‬أُمَّال‭ ‬هنجيب‭ ‬استرالي‭ ‬يقود‭ ‬طيارة‭ ‬مصرية‭. ‬هنا‭ ‬تحول‭ ‬عويل‭ ‬بهاء‭ ‬الى‭ ‬هستيريا‭: ‬البقاء‭ ‬لله‭. ‬وصار‭ ‬يسب‭ ‬ابليس‭ ‬تارة‭ ‬وعويس‭ ‬تارة‭ ‬أخرى،‭ ‬ثم‭ ‬يصيح‭: ‬أولاد‭ ‬ال‭... (‬يقصد‭ ‬من‭ ‬نظموا‭ ‬المؤتمر‭) ‬طلبت‭ ‬منهم‭ ‬السفر‭ ‬على‭ ‬طيران‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬يقوموا‭ ‬يمقلبوني‭ ‬ويركبوني‭ ‬في‭ ‬طيارة‭ ‬عويس؟

‭ ‬بهاء‭ ‬هذا‭ ‬قرر‭ ‬أداء‭ ‬العمرة‭ ‬فسافر‭ ‬من‭ ‬الخرطوم‭ ‬الى‭ ‬أثينا‭ ‬بالطيران‭ ‬الهولندي،‭ ‬وسافر‭ ‬من‭ ‬أثينا‭ ‬الى‭ ‬جدة‭ ‬بالخطوط‭ ‬الفرنسية‭. ‬وبعد‭ ‬توطين‭ ‬وظائف‭ ‬الطيارين‭ ‬في‭ ‬كافة‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬امتنع‭ ‬بهاء‭ ‬عن‭ ‬السفر‭ ‬جواً‭ ‬ولم‭ ‬يركب‭ ‬طائرة‭ ‬طوال‭ ‬الـ35‭ ‬سنة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬عمره‭ (‬رحمه‭ ‬الله‭). ‬قلت‭ ‬له‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬ان‭ ‬سجل‭ ‬السلامة‭ ‬لشركات‭ ‬الطيران‭ ‬العربية‭ ‬ممتاز‭ ‬ولكنه‭ ‬يقول‭ ‬بلا‭ ‬حياء‭: ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬وإفريقيا‭ ‬يستحق‭ ‬تقدير‭ ‬ممتاز‭. ‬وبهاء‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬الخوف‭ ‬الذي‭ ‬لازمني‭ ‬طويلا‭ ‬من‭ ‬ركوب‭ ‬الطائرات،‭ ‬فقد‭ ‬سمعت‭ ‬حكاياته‭ ‬معها‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يأذن‭ ‬الله‭ ‬لي‭ ‬بركوب‭ ‬الطائرات،‭ ‬ولما‭ ‬تسنى‭ ‬لي‭ ‬استخدام‭ ‬الطائرات‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬الكباتن‭/ ‬القباطنة‭ ‬عبد‭ ‬الصمد‭ ‬ومرسي‭ ‬وحسنين‭ ‬وحسب‭ ‬الله،‭ ‬ولم‭ ‬يتحسن‭ ‬حالي‭ ‬كثيرا‭ ‬عندما‭ ‬ركبت‭ ‬طائرات‭ ‬يقودها‭ ‬كابتن‭ ‬كومار‭ ‬أو‭ ‬فرنانديس،‭ ‬ثم‭ ‬خفت‭ ‬نوبات‭ ‬الخوف‭ ‬كثيرا‭ ‬بعدما‭ ‬انتبهت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬سجل‭ ‬شركات‭ ‬الطيران‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الحوادث‭ ‬أنصع‭ ‬من‭ ‬سجل‭ ‬شركات‭ ‬الغرب‭. ‬بس‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬2‭ ‬منها‭ ‬فإن‭ ‬سجلها‭ ‬في‭ ‬المواعيد‭ ‬يرفع‭ ‬الضغط‭ ‬ويسبب‭ ‬الإمساك‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا